كتاب ( فنون العمارة الإسلامية وخصائصها في مناهج التدريس )

اسم المؤلف : د. عفيف البهنسي

 

clip_image001

 

تقديم

 

يعتبر التراث الثقافي والحضاري الإسلامي سجّلاً لإبداع الأمة، ورمزاً من رموز عبقريتها، وذاكرةً حافظةً لقيمها، ومقوّماً من مقوّمات هُويتها الحضارية وخصوصيتها التي تتفرّد بها بين الثقافات والحضارات. ويُعدّ التراثُ المعماريُّ علامة مضيئة وثمرة مشعة لهذا الإبداع الذي أسهمت به الحضارة الإسلامية في إغناء الحضارات الإنسانية وإثرائها، بما حملته من مظاهر جمالية وفنية، واحتضنته من رموز ظلت به عنوانًا دالاً على تطوّر هذه الحضارة وتقدم بُناتها وصُنَّاعها وعلمائها عَبْرَ العصور المختلفة، تمثّلت في المآثر التي ظلت شامخةً في مختلف بقاع العالم تشهد على نبوغ مهندسيها، وخلود فنها وعراقة رموزها، في مؤسساتها الدينية والثقافية، كالمساجد والجوامع والرباطات، والقلاع والحصون، والمراكز العلمية كالمدارس والجامعات.

 

ووعياً من المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة وجمعية الدعوة الإسلامية العالمية بالرسالة الحضارية التي نهضت بها هذه المؤسسات المعمارية، وتعريفاً برسالتها، وتوثيقاً لمعالمها، وحمايةً لهُويتها وجمالها، وإبرازاً لتأثيراتها في مسيرة العمارة الإنسانية، عملت الجهتان، ومن خلال خططهما المتوالية، على حماية التراث المعماري الإسلامي، عن طريق ترميمه والتعريف بمؤسساته المختلفة، وإبراز دوره الثقافي المشعّ عَبْرَ التاريخ، فقدمتا الدعم لترميم المؤسسات المعمارية، وأعدّتا الدراسات لتطوير طرائق العمارة الإسلامية وفنونها وأساليب تدريسها، وذلك للمحافظة على خصوصياتها وتعميق وعي الإنسان المسلم، وخاصة الأجيال الجديدة، بخصائصها وروعتها وأسرارها، وتحديثها لربطها بالتطورات المعمارية، مع المحافظة على خصائصها.

 

لكل هذه الاعتبارات، أعدت المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، بالتعاون مع جمعية الدعوة الإسلامية العالمية، بواسطة الخبير المقتدر والباحث المدقق الدكتور عفيف بهنسي، هذه الدراسة التي تقترح رؤيةً منهجيةً  لتطوير تدريس فنون العمارة الإسلامية، مستندةً في ذلك إلى أساس أصيل يعتمد المرجعية الإسلامية والحضارية، وإلى أساس معاصر يستفيد من المستجدات في هذا المجال، عاملةً فيه على تقديمه بأسلوب علمي شائق، ومنهج توثيقي رائق.

 

نسأل الله أن يكون هذا الكتاب إضافة مفيدة، وأن ينفع به الطلاب والمثقفين وشداة المعرفة بهذا الجانب الرائع من الحضارة الإسلامية المبدعة.

 

د. محمد أحمد الشريف
أمين جمعية الدعوة
 الإسلامية العالمية

 

الدكتور عبدالعزيز بن عثمان التويجري
المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة

 

 

 

 

 

 

 

clip_image001

 

مقدمة

 

يكاد تدريس فنون العمارة الإسلامية أن يكون معدوماً في جامعات العالم وحتى في جامعات العالم الإسلامي، ويرجع ذلك الغياب إلى عدم وضوح خصائص فنون العمارة الإسلامية في برنامج التعليم المعماري الجامعي. وهذا ما نحاول استدراكه في هذا الكتاب الذي ابتدأ بالحديث عن الوعي المعماري الإسلامي منطلقاً من التمييز بين الهندسة المعمارية، وهي علم بحت، وبين الفن المعماري وهو إبداع وتصميم، بدءاً من المعمار البسيط إلى المعمار الجامعي المختص. ثم يأتي الحديث عن خصائص هذا الفن الذي ارتبط بالتعاليم الإسلامية وبالفكر الإسلامي مما نراه واضحاً في المنشآت العامة كالمسجد والمدرسة وحتى في الحمامات والمشافي، وكان هذا الارتباط الخصيصة الأولى، ثم يأتي المقياس الإنساني في العمارة الإسلامية كخصيصة ثانية، والمقصود بالمقياس أن تلبي العمارة الوظيفة الإسكانية في أحسن ظروفها وأكثرها أمناً وراحة، مع الوظيفة الجمالية التي تجعل من المبنى العام أو الخاص محراباً بديعاً تهفو النفس للركون إليه لما يحويه من تكوينات معمارية وصيغ رقشية.

 

إن الهدف من تدريس فنون العمارة الإسلامية، ليس إنعاش الذاكرة التاريخية والحديث عن الماضي ومنجزاته، بل البحث أيضاً عن صيغة مستقبلية لهذه الفنون تقوم على التحديث والتماشي مع تطور الحياة وتطور وسائلها المتسارع ـ وهنا يأتي مجال الحديث عن الأصالة والحداثة التي كثيراً ما نوقشت في الفترة الأخيرة.

 

كذلك تطرح مسألة الانتماء إلى التراث والإبداع نفسها في هذا المجال، لبيان سبيل التوفيق بينهما في ظروف تيارات الحداثة الجامحة مع استعراض محاولات كبار المعماريين العرب من أمثال المهندس المصري حسن فتحي، وأعمال المعماريين الذين أحرزوا الجوائز العالمية في مضمار تحقيق توافق بين الأصالة والإبداع. وهذه الأمثلة تساعدنا على استقراء شروط تحقيق هذا الهدف التوافقي، سواء في تدريسنا الجامعي، أو في تحكيمنا للمشاريع المرشحة للجوائز.

 

والذي يهمنا إدراكه دائماً، هو كيف تستوعب برامجنا التعليمية الجامعية هذه الشروط لتحقيق تعليم معماري إسلامي قادر على مواكبة مستحدثات المستقبل، علماً أن هذه الشروط تقوم على مبادئ، أولها أن العمارة ليست فناً أو علماً فقط، بل هي فن وعلم، فن يقوم على الإبداع، وعلم يقوم على ثوابت رياضية. والمبدأ الثاني أن فن العمارة متميز عن جميع فنون العمارة في العالم، بمعنى أنه يتمتع بجمالية خاصة منبثقة عن فكر إسلامي متحرر، نستطيع استجلاءه من مصادرنا التراثية التي لم يكشف عنها الغطاء حتى الآن، مثل أفكار أبي حيان التوحيدي الجمالية التي وقفنا عندها مطولاً في كتاب مستقل.

 

إن أول ما تنظمه البرامج التدريسية هو البحث عن النظرية المعمارية الإسلامية، فإلى جانب القواعد الثابتة الرياضية والهندسية، هناك وشائج رمزية سيماتية تصل العقيدة الإسلامية بالفكر المعماري، تبقى هي النظرية الثابتة. وعن هذه النظرية يتم تحقيق التصميم المعماري الإسلامي ويتم الكشف عن الإبداع المنتمي الذي يتمثل في المحاولات التطبيقية المشخصة؛ فالتعليم لا يتم نظرياً فقط، بل عملياً وتطبيقياً أيضاً.

 

وإذا كانت النظرية الثابتة في العمارة الإسلامية هي العقيدة، فما هي مواصفات هذه النظرية ؟. إن أهم ما يجعل الدين الإسلامي ديناً حضارياً هو التوحيد، فالتوحيد يعني أن الخالق العظيم لهذا الكون هو واحد أحد صمد. ويتجلى الإيمان به في السعي لاكتشاف أسراره المتمثلة في روعة النظام الكوني والمخلوقاتي.

 

والإنسان المسلم أقام حضارته من علم وفن وعمارة على أساس هذا الإيمان، فكان التصوير الشمولي المتجسد في الرقش العربي، وكانت العمارة التي اتسمت بالمثالية والسمو نحو المطلق، وبقي اتجاه قبلة المساجد في العالم كله نحو نقطة واحدة هي الكعبة الشريفة، رمز السعي التوحيدي الذي تمثل في عمارة ذات هوية واحدة على اختلاف المكان والتاريخ. ومرة أخرى يتحدث هذا الكتاب عن دور الإبداع، فالحرية التي منحها الإسلام للفكر والعمل ضمن حدود التقوى، كانت دائماً السبب في التنوع الذي أغنى تاريخ العمارة الإسلامية بشواهد لم تكن نسخاً عن بعضها كما تم في الفنون الكلاسيكية الغربية. ولقد كان المقياس في هذا الإبداع، هو الوسطية، بمعنى أن يكون العمل المعماري موزوناً تمشياً مع الآية الكريمة : { وأنبتنا فيها من كل شيء موزون }.(سورة الحجر، الآية : 19).

 

واعتماداً على هذه النظرية الثابتة، نستطيع أن نسير في طريق صاعدة لبناء مفهوم الجمالية المعمارية الإسلامية بحسب قوانين علم الجمال الحديث، ونستطيع أيضاً أن نوضح دور الفنون الإسلامية في التعبير عن قيم المسلمين وتاريخهم وحضارتهم. وما أحوجنا في عصر الحوار الحضاري اليوم، إلى وسائل راسخة للتعريف بقيم المسلمين وبحضارتهم، وبخاصة إذا كانت هذه الوسائل فنية ذات لغة عالمية مقروءة ومعترف بها، ولا تخلق حاجزاً عنصرياً أو مذهبياً يؤول إلى صراع وتفكيك إنساني. وما أحوجنا في عصر العولمة إلى صورة معمارية أو فنية يتجلى فيها جلالُ الله  سبحانه وتعالى، وتكون مقروءة تهفو إليها نفوس، سواء كانت بعيدة أو كانت خصيمة ذات يوم.

 

هكذا نستطيع القول إن محاولتنا في هذا الكتاب إذا كانت تحمل عنواناً تعليمياً، فهي تهدف إلى تحقيق خطاب حضاري قائم على أسس معمارية علمية يفيد في إنجاح الحوار في العالم، للدخول معه في اتخاذ القرار الإنساني الصحيح لعالم أفضل. والكتاب أولاً وأخيراً، هو أداء مخلص لدعوة كريمة من المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، لإعداده وفق خطتها الحكيمة في وضع منطلقات جدية لحضارة الإسلام المستقبلية.

 

ومن الله التوفيق والسداد.

 

أ. د. عفيف البهنسي

 

 

 

 

 

 

 

clip_image001

 

الفصل الأول
خصائص الفن المعماري الإسلامي

 

أ) بداية فن العمارة.

 

أ.1. منذ أن وجد الإنسان كان الفن، ومغاور (لاسكو) و(التيميرا) تشهد على روائع الفن الذي زين فيه الإنسان؛ ومنذ آلاف السنين، مغائره التي كانت مقره ومسكنه، وتشهد هذه الزينة المؤلفة من رسوم ملونة  لحيوانات انقرضت، على مهارة وواقعية، تؤكد أن الفن وسيلة اتصال سبقت اللغة والآداب في حياة الإنسان.

 

أ.2. وعندما تقدمت الحضارة، كان المسكن هو الحيز الذي استوعب مهارات ومواهب الفنانين، فالمنازل التي اكتشفت في وادي النطوف (فلسطين)، أو في المريبط (سوريا)، والتي تعود إلى الألف السابعة قبل الميلاد، كانت مزينة بزخارف ملونة.

 

أ.3. ولكن العمارة بذاتها، لم تلبث أن أصبحت بمظهرها الخارجي وكتلتها وأقسامها، شيئاً فنياً مجسماً، يحتاج إلى عمل إبداعي، كما يحتاج إلى فكر هندسي، ومع ذلك استمرت العمارة المجال الذي يستوعب جميع أنماط الفن التشكيلي، من تصوير أو نحت. وتجلى ذلك بقوة في العمارة الإسلامية، وشاهدنا ذلك في القصور الأُموية التي تميزت بالنحت الملون أو غير الملون، وبالرسوم الفسيفسائية والتلوينية، التي ما زالت ماثلة أثارها في قصور الحَيْر والمشتى وقصر المفجر وحمام قُصَيْر عَمْرة.

 

أ.4. وإذا كان للفن التصويري أن ينفصل عن العمارة؛ لكي يستقر على الأشياء المنقولة، مثل المخطوطات والأواني وتوابع العمارة والأثاث، فإن أساليبه لم تتغير كثيراً، فهي إما أن تكون تشبيهية واقعية، أو تكون زخرفية مجردة، ولقد تنوعت بتنوع الطرائق والاجتهادات حتى اليوم.

 

على أن العمارة، وقد اعتمدت لغة أخرى غير مفردات لغة الخط واللون، وهي لغة الكتلة والفراغ، قدمت لنا هُوية مستقلة متميزة لم تختلط بهُوية فنون العمارة الأخرى التي عاصرت فن العمارة الإسلامية.

 

أ.5. فإذا كان الفن التشكيلي، الرسم والنحت سريع الاندماج بتيارات وشخصيات الفنون الأخرى؛ أخذ منها وانطبع بطابَعها من حيث لا يدري، كما تم في انحراف فن المنمنمات باتجاه الفن الأوربي، فإن انحراف فن العمارة مهما كان ضئيلاً، يفقد أصالته وشخصيته أو يعرضه إلى الانضواء الكامل لسيطرة الأساليب المعمارية الغربية، التي قد تكون أسهل تنفيذاً وأصلح استعمالاً، وأقرب إلى مفهوم الحداثة والزي، ولكنها تبقى مقطوعة الجذور عن نسغها الحضاري الأصلي.

 

وفي العصور التي تعرضت فيها المِنْطقةُ العربية ـ على سبيل المثال ـ إلى التَّبَعيةِ السياسية والاجتماعية، يبدو ذوبان الشخصية الحضارية أكثر وضوحاً في زوال الطابع المعماري الأصيل.

 

إن إنشاء العمارة هو عمل إبداعي يتطلب مجتمعاً ومُناخاً حرّاًً، ولقد استطاعت التبعية التي عانتها الشعوب العربية الإسلامية، أن تقمع الإبداع الفني، وأن تفتح الأبواب مشرعة أمام التأثيرات الغربية. وهكذا ظهر الأسلوب الكولونيالي الاستعماري في عمارات القاهرة والإسكندرية والجزائر والرباط والدار البيضاء وحلب وبيروت.

 

أ.6. وعندما ظهرت العمارة الحديثة تحت اسم Jugenstil في ألمانيا، وشهد العالم جناح ألمانيا في معرض برشلونة 1929 للمعمار ميس فان در روه المبني من الزجاج والمعدن، كان ذلك نهاية العمارة القديمة، وبداية عهد الإبداع المتطرف والمجرد. والذي كرسته، أيضاً، مدرسة الباوهاوس في فايمر. وكان هذا بداية حداثة العمارة التي قامت على رفض جميع التقاليد المعمارية من أي نوع كانت، والعودة بالهندسة المعمارية إلى الأشكال والحجوم المجردة، وهكذا أصبحت العمارة مكعبات وأهرامات معزولة أو مركبة في تشكيلات لا تخلو من العبث واللعب. وأصبح هم المعمار إثارة الدهشة الخارجية التي تسببها إيقاعات غير متزنة في الحجوم والكتل والفراغات، مع سخاء في استغلال الفراغات الداخلية لوظائف مخصصة، ضمن شروط صعبة تفرضها تجهيزات الكهرباء والإلكترون التي تؤمن الانتقال والصعود والتدفئة والتهوية والأمن.

 

والسؤال اليوم، أين العمارات المعاصرة من عمارات الماضي؟، يقول (جنكيز) “لم يتبق من العمارة إلا رموز الهندسة، لقد رحل هذا الفن إلى أبعد نقطة تفصله عن التاريخ وعن الإنسان”. وهو ينادي بعمارة ما بعد الحداثـةPost Modernism .

 

إن عمارة الماضي في الهند والمكسيك وفي إيطاليا وفي البلاد العربية وغيرها، مازالت قائمة ترقب بحسرة انهيار مفهومها أمام تجريدية وعبثية العمارة الحديثة، وشيئاً فشيئاًً عاد أنصار الأصالة في كليات العمارة بشن الحرب على الأسلوب الجديد، معبرين عن سخطهم وخيبتهم لمآل الحداثة، وقد وصلت إلى نقطة الصفر؛ كما يقولون(1).

 

ب) بين العمارة وفن العمارة

 

ب.1. عند دراسة الفن المعماري الإسلامي، لابد من الاتفاق على المفاهيم الأولى لهذا الفن، وقد يختلط الأمر بين مفهوم العمارة ومفهوم فن العمارة مع أن ثمة اختصاصات جامعية لكل من المفهومين، اختصاص هندسي معماري واختصاص فني معماري. وهكذا نقول عن العمارة إنها طريقة البنيان لخدمة وظيفة اجتماعية محددة كالسكن والعبادة والدراسة والاستطباب والتخليد. وتتطلب هذه الطريقة معرفة بخصائص هذه الوظائف وعلاقتها بالبيئة، ومعرفة بمادة البنيان ومقدرتها على تأدية الوظيفة براحة وأمان، ومعرفة بخطط العمران بجعل العمارة خلية في نسيج المدينة. أما فن العمارة فهو إبداع تكويني وزخرفي يزيد في تشخيص هُوية المبنى ووظيفته، ويتجلى هذا الفن في وجهين، وجه خارجي مرتبط بمشهد المدينة، حيث يبدو المبنى كتلة متناغمة مع الكتل المعمارية، ومرتبط بهوُية المدينة. فالطراز المعماري يحدد سِمة العمران، فهو إما يكون أصيلاً أو دخيلاً تقليدياً أو مبتكراً. ويجهد مصممو المدن في وضع نظام معماري يبقى أساساً في تكوين عمران المدينة، كما هو علامة لنظام الحياة الاجتماعية، وللتضامن المعماري لتكوين علاقات اجتماعية موحدة من خلال وحدة الطراز أو الأسلوب المعماري.

 

ب . 2 . والوجه الداخلي لفن العمارة يرتبط بمصالح فردية أو عائلية خاصة، ويحقق أهدافاً مباشرة للسكان الذين يتطلعون إلى عالم داخلي يحقق لهم سكينتهم ومتعتهم، ولقد تفردت العمارة الإسلامية بتفضيل العمارة الداخلية على العمارة الخارجية، ولقد أصبح داخل المبنى زاخراً بروائع الزخارف المنتشرة على الجدران والسواكف والأفاريز والأعمدة والنوافذ والأبواب، وفي البرك والفسقيات، وفي الحدائق والأحواض التي تفوح منها رائحة الزهور والياسمين، وتنغرس فيها أشجار الليمون والكباد وعرائش العنب. حتى أصبح المسكن فردوسَ صاحبهِ، وفي الأثر: >جنة الرجل داره<.

 

ب.3. وينصرف هم المعمار الفنان؛ لتصميم شكل المبنى وشكل عناصره الإنشائية؛ كالأعمدة والأقواس والقباب والقبوات. ولقد تطور فن العمارة مع تطور الحياة الاجتماعية، ومع اختلاف أنظمة المدن الحديثة، وكان لظهور مادة الإسمنت والمعدن والزجاج أثر كبير في تطور العمارة الحديثة التي تسربت إلى عمارتنا، فكان لابد من استعمالها وفق شروط الفكر المعماري التقليدي للحفاظ على الهُوية المعمارية الأصيلة.

 

ج) لغة و مفردات العمارة الإسلامية

 

ج.1. لقد نشأت الثقافة المعمارية الإسلامية على أيدي المعمار البسيط، الذي تولى عمليات الإنشاء، والإبداع بشكل تلقائي، يعتمد على حدسه ودربته وانتمائه الاجتماعي والديني، ولم يطلع هذا المعمار الصناع على مراجع ونظريات، بل كانت تجارِبُه وابتكاراته تشكل مدرسة وتقليداً تتبعه الأجيال اللاحقة من المعماريين.

 

ونشأت عن الممارسات المعمارية  لغة  معمارية، ومفردات يتناقلها المعماريون، ويتعاملون بها للدلالة على تفاصيل أعمالهم. وكانت هذه المفردات غزيرة ومتنوعة باختلاف المعلمين المعماريين، واختلاف بيئاتهم ولهجاتهم، وهكذا ظهرت مصطلحات ومفردات مختلفة ومتباعدة غير موحدة، ولكنها مباشرة ومعبرة عن مدلولها بمرونة خارقة.

 

ج.2. ومع انتشار الثقافة والانتقال من اللهجات المتباينة إلى اللغة العربية المشتركة، وهي لغة القرآن الكريم، ظهرت الحاجة إلى توحيد هذه المفردات والمصطلحات، ولقد قامت المجامع اللغوية بجهود لتحقيق هذا الهدف، وكان على معاهد العمارة أن تتبنى هذه المصطلحات الموحدة، مما يساعد على فهم أسرار فن العمارة وعلى توحيد قراءتها، سعياً لتوطيد وحدة الشخصية المعمارية الإسلامية.

 

د) خصائص الفن المعماري الإسلامي

 

د.1. على الرغم من الفرق بين العمارة ومفهوم فن العمارة، فإن ثمة خصائص شاملة للفن المعماري الإسلامي تعتمد على المبدإ الهندسي العلمي والمبدإ الفني الإبداعي.

 

لقد استوفى فن العمارة في مصر والرافدين وفي الهند وفي الغرب حقَّه من الدراسة النظرية، وكانت مراجع تاريخ العمارة  زاخرة بالنظريات التي تناولت هذه الفنون المعمارية، والتي درسها الاختصاصيون في العالم، وانتقلت إلينا مترجمة خالية من دراسة تنظيرية تحدد خصائص الفن المعماري الإسلامي، وكان لابد من سد هذا النقص من خلال مجموعة من المعطيات.

 

د.2. ويجب أن يكون واضحاً أن تحديد الخصائص لم يكن سابقاً لتكون فن العمارة  الإسلامية، بل هو استدلال نستخلصه من شواهد هذا الفن المعماري. ولكن خصيصة أساسية كانت وراء هذا الفن حددت سمته واسمه، وهي الخصيصة الدينية التي تجلت في الفكر الجمالي الإسلامي، الذي كون الفنون الإسلامية والعمارة.

 

د.3. تتجلى علاقة العمارة بالدين الإسلامي من خلال عقيدة التوحيد كأساس عقائدي، ومن خلال التعاليم والمبادئ والتقاليد الإسلامية.

 

والفكر التوحيدي يقوم على الإيمان بإله واحد مطلق لا شبيه له {ولم يكن له كفواً أحد}، (سورة الإخلاص ، الآية: 4) وهو رب العالمين ورب السماوات والأرض، وبهذا فإنه يختلف عن مفهوم الرب في جميع الأديان والعقائد، حيث يبدو الرب مشخصاً محدداً أو مشبهاً ونسبياً. لقد كان الإطلاق سبباً في البحث المستمر عن أبعاد هذا المطلق، وكان الإيمان ممارسة حضارية تبدو في البحث عن سر المطلق وعن قدراته الهائلة التي تتمثل في الكائنات والطبيعة.

 

د.4. وكان المسجد أول بيت أسس على التقوى يجمع المؤمنين تحت قبة واحدة خاشعين أمام عظمة الخالق سبحانه، يتدبرون سرّاً وعلانية، التقرب منه علماً ويقيناً. وكان شرط عمارة المسجد يقوم على قواعد الصلاة. وانتقلت شروط الإيمان بالله الملاذ الأجل، إلى أشكال العمارة الأخرى، المدرسة والضريح والقصر والبيت.

 

د.5. أما بناء المسجد فإن الزركشي(1)، يتحدث بإسهاب عن شروط بنائه، لكي يساعد المصلي على أداء صلاته براحة، وعلى الاستماع إلى الخطيب بيسر. ومن شروطه التي أوردها نذكر:

 

1. شرط الاتصال بين المصلين وتراص الصفوف.
2. شرط خلو صحن المسجد من الأعمدة التي تقطع صفوف المصلين.
3. شروط تحقيق الاقتداء بعدم وجود حائل يمنع من تلاحق وتتابع صفوف المسلمين.
4. شرط وجود جدار نافذ بين الصحن والحرم.
5. شرط ألا يكون الدخول إلى صحن المسجد مباشراً.

 

د.6. لعمارة الحمامات شروط لابد من تحقيقها لضمان النظافة والحشمة والبيئة الصحية المواتية، تحدث عنها الكوكباني في (حدائق التمام في الكلام عن الحمام) وهي النظافة والعلاج من بعض الأمراض، وضمان الخدمات عن طريق منبر الإدارة، والمَخْلََع والمخزن وخزائن الأمانات، ويتحدث عن قواعد العمارة برفع مستوى الحمام، وتنظيم مجاري المياه والإكثار من فتحات الإضاءة في القباب.

 

ويشترط أن يقسم الحمام إلى ثلاثة أقسام. القسم البارد ثم الرطب وثم الساخن المجفف، لكي لا يتأثر المستحمون من تقلبات الجو المفاجئ.

 

د.7. أما المشافي فلقد حددت شروطها الوقفيات وأوامر المحتسب، ونصت على منهجية التصميم والبناء.

 

د.8. إضافة إلى الشروط المفروضة المتعلقة بعمارة المباني، هناك شروط تتعلق بالعمران، كان أولها ما وضعه الخليفة عمر بن الخطاب. وأهمها أورده ابن الرامي في كتابه(1)، حيث حدد استعمالات الأراضي وحقوق الارتفاق وحقوق استعمال الطرق. ولقد تناولت المصادر الجَغْرافية وكتب الرحلات شروطاً تتعلق بالتخطيط الحضري، وبخاصة كتاب تاريخ مكة للأزرقي وتاريخ دمشق لابن عساكر، وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي، وكتاب المواعظ والاعتبار للمقريزي الذي استوفى التخطيط الحضري الكامل لمدينة القاهرة، كما تضمن الكتاب وصفاً للجوامع والحدائق والزوايا والبيمارستانات والحمامات والخانات، وحدد مواقعها ضمن مخطط القاهرة. ويُعَدُّ كتاب المقريزي أهم مرجع لعلم التخطيط الحضري عامة و لوصف القاهرة خاصة(2).

 

هـ) المقياس الإنساني

 

هـ.1. شبه ابن قتيبة الدار بالقميص، فحيث يخاط القميص حسب مقاس صاحبه، كذلك يبنى البيت حسب مقياس ساكنه، وبهذا يُعَدُّ ابن قتيبة أول من تحدث عن المقياس الإنسانيScale  Human في العمارة الإسلامية(1).

 

هـ.2. لقد توضح هذا المقياس بالمقارنة مع المقياس الرياضي الذي قامت عليه العمارة الغربية منذ عهد الإغريق والرومان وحتى الفن المعماري الحديث، والمقياس الرياضي يقوم على الخضوع  الكامل للنظامOrder الذي تكوَّن بفعل العلاقات الهندسية الرياضية وبواسطة الأدوات كالمسطرة والفرجار، بينما قامت العمارة الإسلامية على الارتباط العضوي بحاجات الإنسان وظروفه المناخية والاجتماعية، وبعقائده ومثُله، وكانت أداة المعمار ذراعه وكفه وإصبعه وخيطه الذي قاس به المسافات وأقطار الدوائر عند إنشاء الأقواس والقباب والقبوات، وبه صنع الشاقول لكي يحدد استقامة البناء. وكان حدسه، وليس عقله فقط، دليله في تصميم البناء وفي تزيينه وزخرفته، وفي بنائه وتدعيمه.

 

ولقد ارتبط المعمار ارتباطاً وثيقاً بمصلحة الساكن وحاجاته العائلية والاجتماعية وبطبيعته النفسية، وبقدرته على التفاعل مع البيئة، ولقد أوضح القرآن الكريم مركزية الإنسان في الحياة عامة، وفي بيئته: {وسخَّر لكمُ اللَّيلَ والنَّهار والشمسَ والقمرَ والنجومَ مسخراتٌ بأمره إنَّ في ذلك لآياتٍ لقومٍ يعقلون}.(سورة النحل، الآية:12).

 

هـ .3. لقد تكون المقياس الإنساني في العمارة الإسلامية منسجماً مع الثوابت المُناخية والتقاليد وروح الحضارة الإسلامية، وليس سهلاً استيراد هذا المقياس وتطبيقه في غير موطنه، وكذلك ليس ممكناً اعتماد المقياس الهندسي الرياضي لتحليل ودراسة فن العمارة الإسلامية. لقد صنع المسكن لكي يكون موطن صاحبه ضمن إطار تاريخه وعقائده، وفي إطار حضارته وثقافته وعقائده الإسلامية.

 

هـ.4. على أن  العمارة الإسلامية إذا قامت على المقياس الإنساني، فإنها لم تكن خالية من المنطق العلمي والبحث الرياضي، لقد أسهم المسلمون في وضع الأسس الرياضية الأساس لإقامة المنشآت والعمارة والعمران، وكان الخُوارزمي أول من أوجد الأعداد ومنازلها، وابتكر الصفر وعلم اللوغاريتم المأخوذ عن اسمه، ووضع الخُوارزمي كتاباً في حساب الجبر والمقابلة، وقدم المعادلات الجبرية الأساس. واستطاع أبو كامل شجاع بن أسلم (مصري، ت: 240 هـ/951م) أن يحل المعادلات ذات المجاهيل الخمسة. وكان من الرياضيين ثابت بن قره الذي اشتغل في الحجوم المكعبة والأشكال المربعة، أما أبناء موسى بن شاكر، فلقد وضعوا مصنفاً عرف باسم (كتاب معرفة  مساحة الأشكال) الذي ترجم إلى اللاتينية في كتاب (تعلم الغرب عن بني شاكر)، حل مسألة تقسم الزوايا إلى ثلاثة أقسام.

 

ولقد تعمق ابن الهيثم بمسائل هندسية صعبة، ومنها إذا قطع مستقيم مستقيمين آخرين، وكان مجموع الزاويتين في نفس الجانب أقل من زاويتين قائمتين، فإن الخطين المستقيمين إذا امتدا إلى ما لا نهاية، سيتلاقيان في الاتجاه المقابل للزاويتين الأقل من القائمتين.

 

هـ.5. يتجلى المقياس الإنساني الذي قامت عليه العمارة الإسلامية في حماية الإنسان من عوارض الطبيعة والتلوث والضجيج والروائح، ولقد استطاع المعمار الإسلامي أن يطّوع العمارة لتحقيق هذه الحماية.

 

إن أهم عنصر في المبنى الإسلامي هو الفِناءُ الداخلي، وفي المساجد يسمى الصحن. وهذا الفِناء يشكل القسم المنفتح على السماء مباشرة، وعليه تطل الأبواب والنوافذ في طابَقَين، ولا يدخله تيار خارجي، إذ يصله بالباب الخارجي المطل على الشارع دِلِّيج (دهليز) متعرج، وهكذا فإن الهواء لا يتسرب إلى داخل الفِناء، وكذلك الرياح والدخان والغبار، ولقد أثبتت التجارب أن حركة الهواء العلوية تبقى محوّمة فوق الفناء لا تتمكن من اختراقه إلا إذا كان الدِّليج والباب الخارجي مفتوحين. وهذا يعنى أن الهواء العلوي سواء كان حاراً أو بارداً، نظيفاً أو ملوثاً، فإنه لا يؤثر على حرارة جو الفناء وعلى نقاوته.

 

هـ.6. لقد روعي في غرف المسكن، كما في حرم المسجد، أن يكون مستوى الأرض فيها أعلى من مستوى أرض الفناء أو الصحن، والسبب أن الهواء البارد أثقل من الهواء الدافئ، ويبقى مستقراً في قعر الفِناء تصده عن دخول الغرف عتبات عالية في أسفل الأبواب، ويبدو هذا النظام أكثر وضوحاً في القاعات التي تعلو أرضها على شكل منصة أو منصتين يعلوان عن مستوى أرض القاعة، فتكون حائلاً ثانياً يمنع تسرب الهواء البارد إلى مستوى أرض المنصة (الطزر).

 

هـ.7. لقد راعى المعمار استعمال الحجر والآجر والخشب في عمارته بسِماكاتٍ مناسبة لحماية سكان المبنى من البرد والحر خارج المبنى.

 

هـ.8. وفي جميع المباني كانت المياه وسيلة نظافة وترطيب ومتعة عندما كانت تتدفق من الفوارات والسلسبيل في فسقيات وبرك مختلفة الأشكال. ولقد درس اتجاه المبنى؛ لكي يتفق مع الحاجة إلى دفء الشمس ونورها، ومع ضرورة الوقاية من دخان المطابخ وروائح المراحيض.

 

هـ .9. تمتاز العمارة الإسلامية بخصيصة أساس تطلق عليها اسم خصيصة (الجَوََّانية)، فأي مبنى سواء أكان مسجداً أم مدرسة أم مسكناً، فإنه يحمل الطابَع الجواني بمعنى أن عمارته الخارجية أقل شأناً من عمارته الداخلية، ونرى ذلك في المساجد الأولى، كالجامع الأموي بدمشق وجامع عقبة في القيروان وجامع قرطبة، كما نراه بشكل شامل في المساكن والقصور. إن خصيصة الجَوّانية هذه  تنسجم في المباني الخاصة، مع شاغل المبنى الذي يبحث عن مجال خاص به يستقل فيه عن العالم الخارجي، ولذلك فهو يغني هذا المجال الداخلي بأروع الزخارف والأثاث المعماري، ويهمل الواجهات الخارجية لأسباب كثيرة أبرزها رغبته بعدم التظاهر والتفاخر والمضاهاة.

 

وتدخل خصيصة الجَوَّانية في نطاق مفهوم المقياس الإنساني

 

هـ . 10. كان انتشار السيارات واسطة أساسية للانتقال والنقل، سبباً في تعديل النظام العمراني للمدينة الإسلامية، وسبباً في تغيير ملامح العمارة التي أصبحت كتلاً من المنشآت تنهض على حافة الطرق التي أصبحت شِرْيان المدينة الحامل للعلاقات الاجتماعية والاقتصادية في المدينة.

 

لقد قام التنظيم العمراني الحديث على توزيع المحاضر المستقلة لبناء عمارات مفتوحة الجوانب على الطرقات مباشرة، أو على الحدائق المحيطة، وهكذا تحولت المنشآت من النظام الجَوََّاني إلى النظام البراني الخارجي، وازداد اهتمام المعمار بالواجهات والحدائق الخارجية، وضعف اهتمامه بالعمارة الداخلية، وبعد أن كانت أقسام المسكن تنفتح على الفِناء ذي الهواء النقي المعتدل، أصبحت مفتوحة مباشرة على الهواء الملوث  الخارجي، وعلى المؤثرات المُناخية والحرارية وعلى الضجيج، كما أصبحت مكشوفة أمام فضول الجوار، وانتهى عهد حرمة المسكن نهائياً. وبصورة عامة فإن النظام الجديد الذي فرضته السيارة عكس نظام المدينة الحديثة، فبعد أن كانت العمارة أساس تنظيم عمران المدينة، أصبح عمران المدينة يتحكم في شكل المبنى وطبيعته. كما عكس النظام الاجتماعي، فبعد أن كانت تقاليد الأسرة تتحكم في العمارة والعمران، أصبحت تقاليد السيارة هي التي تتحكم في التصميم العمراني والمعماري وفي التقاليد الاجتماعية.

 

و) تعاليم معمارية وعمرانية إسلامية

 

و.1. عززت التعاليم والمبادئ والتقاليد الإسلامية هُوية العمارة، ووطدت شخصيتها، وإذا ما أتيح جمعها في دراسة شاملة تكون لدينا الأساس النظري للعمارة الإسلامية، وأول هذه التعاليم صدرت عن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، إذ يأمر والي البصرة  والكوفة بالتقيد بأبعاد حددها للشوارع والأزقة ولالتصاق الدور وارتفاعها والتفافها نحو المسجد ودار الإمارة، ولقد قدم الفلاسفة والمفكرون مثل ابن سيناء وابن خلدون وابن قتيبة مبادئ معمارية هامة مشابهة، وكذلك كان دور الفقهاء، فلقد قدم ابن الرامي (ت 376 هـ) في كتابه (الإعلان  بأحكام البنيان)(1) قواعد تنظيمية وصحية مهمة، كما توسع في الحديث عن الأخطاء المعمارية وآثارها، مثل خطإ عدم حماية المبنى من الدخان والروائح والضوضاء والشمس، وفرض احترام حرمة الآخرين بعدم الإطلال على الجوار، وعدم إفساح مجال إطلاع المارة على داخل المسكن.

 

و.2 . خضعت العمارة فناً وهندسة إلى العقيدة الإسلامية مما ميز هُويتها الموحدة على امتداد العصور، ولكن اختلاف العادات واللغات والحضارات في العالم الذي دان بالإسلام من الصين شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً، أوجد تنوعاً

 

في الإبداع  مع التصاق قوي بالوظيفة. لقد كان الطراز الإغريقي والروماني واحداً في جميع المباني على اختلاف وظائفها، ولكن العمارة الإسلامية تميزت بانسجام الشكل المعماري مع المضمون الوظيفي، وهكذا تختلف عمارة المسجد عن عمارة المدرسة أو المدفن أو المشفى أو البيت، ويبقى من الصعب أن نخطئ في تحديد وظيفة المبنى من خلال شكله المعماري. بل تأتي قيمة المبنى من مدى ملاءمته لوظيفته المحددة، فيكون البيت أكثر كمالاً إذا حقق الوظيفة السكنية من لجوء وسكينة وأمن، وتحدث ابن قتيبة في شروط المسكن سواء كان خيمة أو مبنى، وعدد من البيوت البروج المشيدة بالجص والبيت المجرد المسنم والبيت المعرس أي في وسطه حائط حامل للسقف، وذكر أسماء الغرف بحسب وظائفها، المخدع والكنّة والسقيفة والفِناء وعقر الدار والمشارب أي الغرف، والعّنة أي حظيرة الإبل. والكنيف أي بيت الخلاء، وتحدث عن أهمية مواد البناء لضمان سلامته ومتانته.

 

و.4. تبقى علاقة العمارة بالبنية العمرانية من أهم الأسس التي قامت عليها نظرية العمارة الإسلامية، وقلما يفصل الجَغْرافيون والرحالة والشعراء في وصفهم العمارة عن البيئة الحضرية التي تقوم عليها هذه العمارة ويقول الشاعر أسعد تبع:

 

دارُنا الدارُ ما تُرام اهتضاماً                         نطقتْ بالكرومِ والنَّخلِ
والـزَّرعِ وإن آثارنَا تدل علينا
                      من عدّوِ ودارُنا خيرُ دارِ
وأصنافِ طيّب الأشجارِ
                             فانظروا مِن بعدِنا إلى الآثارِ

 

ولقد حدد المسعودي(1) شروط الاختيار الجَغْرافي في البيئة البدوية لإقامة المنازل البدوية، فهو يقول: ” الواجب تخير المواضع بحسب أحوالها من الصلاح” كما قام الهمذاني(2) بتحديد شروط البيئة الحضرية للمدن كمدينة صنعاء، واشترط تطويع المباني مع البيئة الحضرية، أي مع العمران المدني، فتحدث عن توجيه المباني باتجاه الريح، وعن زراعة الخضار لتزويد السكان وتلطيف الجو، وعن توفير الماء وتنظيم الري، وعن مواد البناء وتقنياته وتحديد المقاسات والمساحات، كما تحدث عن الخصائص الشكلية للعمارة.

 

ز) نظام التهوية الطبيعي

 

ز.1. في كثير من المدن الإسلامية مثل أصفهان ودبي وحلب، كان ثمة نظام للتهوية والترطيب يدخل في أساس التصميم المعماري؛ هو نظام الملقِّف (البادغير)، ويتألف هذا النظام من برج يخترق البناء ويعلو عليه، تنفتح فيه نوافذ مشرفة في الأعلى ويقسمه من الداخل حاجز متصالب قطري. ويستخدم هذا البرج لتلقف الهواء الخارجي الذي ينساب عَبْر البرج إلى الغرف، بعد أن يمر على سطح حوض مائي يحمل منه قدراً من الرطوبة(1).

 

ز.2. وثمة تهوية بسيطة تقام على حواجز السطوح، وهي فتحات أفقية تقوم أيضا” بتلقف الهواء لكي يستفيد منه الساهرون والنائمون على سطح المبنى.

 

ز.3. لقد تم اكتشاف نظام للتهوية في بعض المباني الأثرية يتألف من أنابيب تمتد أفقياًً توزع الهواء الخارجي على غرف المبنى. وتبقى النوافذ المشبكة وسيلة شائعة لتلقف الهواء الخارجي.

 

ز.4. إن نظام الملقف يبقى النظام الأمثل للتهوية والترطيب في المباني الإسلامية التي تقوم في بيئة جافة تميل إلى الحرارة، وهو نظام اقتصادي وصحي ولا بد من العودة إليه في أبنيتنا الحديثة. لا ليكون صيغة معمارية جمالية كما في جبل علي في دبي، بل لكي يؤدي وظيفته الصحية والاقتصادية.

 

ح) العمارة والزخرفة

 

ح.1. تبقى الزخرفة من أهم خصائص الفن المعماري الإسلامي. صحيح أن مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو أول منشأة معمارية إسلامية، كان في بدايته شديد البساطة والتقشف، فهو مجرد سقيفة من سعف النخيل تقوم على جذوع النخيل، ولم يكن البناء مزيناً بأي عنصر زخرفي، إلا أن إعادة بناء المسجد بأمر الوليد بن عبد الملك، وفي عهد والي المدينة عمر بن عبد العزيز، قد تم وفق أسس معمارية جديدة حافلة بالزخارف والفسيفساء، على غرار مسجد دمشق. ولقد وصف هذا المسجد العالم الفرنسي (سوفاجيه) ورسم زخارفه في كتابه عن هذا المسجد(1).

 

ح.2. يقوم فن العمارة الإسلامية على تكوين التصميم حسب تقاليد الهندسة المعمارية الإسلامية، وتبعاً للشروط الوظيفية، كما يقوم على ابتكار الزخارف النباتية والهندسية والخطية الجميلة. ولقد سارت الزخارف قدماً حتى طغت على التصميم، ونرى مراحل ذلك واضحة في جامع قرطبة سواء”بالقسم الذي أنشأه أولاً عبد الرحمن الداخل على غرار المسجد الأقصى في القدس والمسجد الأموي بدمشق. ثم أضيفت لهذا المسجد إضافات غيرت شكله وأغنته، ففي عام (848م) قام عبد الرحمن الثاني بإنشاء زيادة باتجاه العمق بمقدار ست وعشرين متراً. ثم تابع الحكم الثاني بن عبد الرحمن الناصر سنة (965م) إنشاء زيادة في الجنوب استمراراً للزيادة الأولى؛ وعلى امتداد جامع عبد الرحمن الداخل. ومن خلال هذا التسلسل  التاريخي والمعماري يتوضح لنا تدرج طغيان الزخارف حتى بدا المحراب في قسم الحكم من أروع المحاريب الإسلامية زخرفة وفخامة، وكانت قباب هذا القسم مفخرة الزخرفة الإسلامية. ثم يضيف الحاجب المنصور الإضافة الثالثة سنة (992م) على امتداد الجامع من جهة الشرق.

 

إن تطور زخارف التيجان والأقواس والقباب في أقسام جامع قرطبة يقدم لنا المثال الصريح على زيادة تدخل الزخرفة في تكوين فن العمارة الإسلامية.

 

ح.3. الزخارف التي تسمى الرقش العربي Arabesque هي من أبرز آيات الإبداع الفني الإسلامي، ولكن طغيانها على فن العمارة وبخاصة في قصور الحمراء في غر ناطة كان سبباً في حصر العمارة ذاتها في نطاق الزخرفة.

 

ح.4. تبقى الكتابات التي زينت سقوف وأفاريز العمارة الإسلامية من أهم عناصر الإبداع المعماري، بيد أن هذه الكتابات، على جمال الخطوط فيها، تبقى وثائق مفيدة في تاريخ العمارة الإسلامية. وأقدم الخطوط الجميلة التي زينت العمارة الإسلامية، هي الخطوط الموجودة حتى اليوم في أفاريز قبة الصخرة من الداخل، وهي تؤرخ بناء المسجد مع آيات قرآنية كتبت كلها بخط كوفي لين مرصوفة بأحجار الفسيفساء التي تزين هذه القبة. وتكاد لا تخلو عمارة إسلامية من كتابات نقشت على الحجر أو الخشب أو نفذت بالفسيفساء والخزف وموضوع أكثرها آيات قرآنية كريمة. والمتأخر منها يتضمن مآثر المنشئ ودوره في إعمار البناء. وهذه الكتابات تحدد تطور الخط العربي منذ نشأته الأولى إلى ظهوره بالأسلوب الكوفي والأسلوب الثلث. وفي المساجد الفارسية المملوكية والعثمانية روائع الخط العربي التقليدي المبتكر بشكل شطرنجي أو تصويري.

 

ط) الوحدة والتنوع في العمارة الإسلامية

 

ط.1. لعل الوحدة من أبرز خصائص فن العمارة الإسلامية، وتتجلى هذه الوحدة في العمارة الدينية والمدنية، وفي العمارة الخاصة والعامة على اختلاف المناطق وتتالي العصور. وتبقى هذه الوحدة العامل الأساس في تكوين هُوية العمارة الإسلامية، ومع أن المنشآت الدينية الإسلامية في الصين مثلاً قد خرجت عن وحدة فن العمارة، فإن تنوع الأساليب في العالم الإسلامي من إندونيسيا إلى المغرب لم ينف هذه الوحدة، بل إن المنشآت الدينية التي أقيمت في أوروبا في باريس ولندن وميونيخ بقيت محافظة على هُويتها الإسلامية، وبمعنى عام فحيثما كان الإسلام منتشراً أو كان المسلمون أكثرية كانت الهُوية الإسلامية في العمارة أكثر ظهوراً.

 

ط.2. ويبقى تنوع أساليب العمارة دليلاً على دور الإبداع في التصميم المعماري، ودليلاً على تطبيع فن العمارة مع البيئة العمرانية والاجتماعية والثقافية التي تنشأ فيها، ويبقى تنوع العمارة الإسلامية ضمن الوحدة من الخصائص المميزة التي ستساعد في تكوين عمارة حديثة، تتمتع بالأصالة، وتعبر عن قابلية للتطور والتجديد والإبداع.

 

ط.3. يمتاز الفن الإسلامي وبخاصة العمارة، بالتنوع في الأساليب والطراز والأشكال، ومع أن سبب هذا التنوع هو تشجيع السلطة وقوة الاحتكاك، وتأثير البيئة، إلا أن الحرية الإبداعية لدى الفنان والمعمار كانت العامل الأهم في تراكم الإبداعات وتنوعها.

 

لقد حض الدين الإسلامي دائماً على العمل المسؤول وعلى المسؤولية، كما شجع على الزينة، وجعل الجمال والكمال صِنْوينِ. وكانت المبادئ الأساسية في تحديد القيم مثبوتة في الكتاب {ولا تَزِرُ وازرَةُ وِزْرَ أخرى} (سورة الأنعام، الآية: 164) {وقلِ اعملوا فسيرى اللهُ عملكم}. (سورة التوبة، الآية:105)، وحمل الله الإنسان رسالة الحياة :{إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما ًجهولاً} (سورة الأحزاب، الآية: 72)، في هذه الآية الكريمة يتبّدى حجم المسؤولية الملقاة على الإنسان، وكذلك حجم الحرية، والإرادة الممنوحة له، وهي تفوق بقوتها وعزمها قوة السماوات والأرض والجبال. وهذه الطاقة الضخمة التي يتمتع بها الإنسان، لا بد أن تتفاعل مع الحياة. عملاً منتجاً وإبداعاً. ولقد استطاع الإنسان المؤمن حامل هذه الأمانة الإسلامية، أن يبني أروع حضارة إنسانية أنشئت حتى الآن، متمتعاً بحريته، مدفوعاً بقوة الثقة الإلهية إلى هدف لا حدود له، متناسياً الجهد والبذل الذي سينفقه لتحقيق هذه الأهداف، فكان بذلك ظلوماً على نفسه جهولاً حجم تضحيته. ولقد تبدت هذه الأمانة في بناء الحضارة، علماً وفقهاً وعمارة وفناً. وكان على كل إنسان مبدع أن يستمد مبادئ إبداعه من تعاليم القرآن الكريم أولاً، التي أمدته بحرية واسعة، ولكنها مسؤولة، وأن يستمدها من حاجات الناس، ثانياًً، وهي حاجات مستمرة  متنوعة بحسب مكانة الناس وبحسب أذواقهم وبحسب أغراض الفنون التي يبدعونها. فإذا كانت السلطة تسعى إلى تدعيم العمارة والفن للصالح العام، فإن السباق بين الملوك والحكام لرفع مستوى مدنهم كان حاداً وواسعاً باتساع عدد هؤلاء الحكام وعدد تلك المدن. أما الأفراد الساعون لتأمين استقرارهم وسعادتهم، فكان لكل منهم غرض وذوق وحلم يسعى إلى تحقيقه. من هنا كانت أمام المبدع فرص كثيرة  لتنوع الإبداع ضمن حرية واسعة يسدد اتجاهها الفكر الجمالي الإسلامي، وبهذا كان التنوع مصحوباً دائماًً بوحدة الأسس الجمالية التي يقوم عليها الإبداع الإسلامي.

 

ط.4. ويجب أن نستعير أمثلة عن الفنون والعمارة في الحضارات الأخرى، لكي نوضح الفرق الكبير في حجم الإبداع والتنوع بين العمارة والفن الإسلامي، وبين تلك العمارة والفنون، فالفن الكلاسي، الإغريقي والروماني، اتبع أنظمة ثلاثة لم يخرج عنها  المعماريون، وهي النظام الدوري والنظام الأيوني والنظام الكورنتي، وعلى الرغم من تعدد التسميات، فهي تخضع جميعاً إلى نظام معماري واحد، يتألف من الحامل والمحمول، المحمول مؤلف من الجبهة القائمة على الطُّنف (وهي ما أشرف خارجاً من البناء). والإفريز، ومن الحامل المكون من أعمدة متشابهة لا تختلف إلا باختلاف شكل التيجان. وإذا أخذنا مثالاً آخر، الفن المعماري المسيحي الرومي والغوطي والبيزنطي، فإننا نراها لا تخرج كثيراً عن مفهوم البازيليك الروماني، مع إضافات وافرة للتماثيل في العمارة الغوطية، وللرسوم الزجاجية والجدارية في العمارة البيزنطية.

 

ط.5. وفي فنون العمارة الإسلامية لامحل لهذا الحصر والتضييق في نظام العمارة، بل إن التعددية التي تتمتع بها فنون العمارة الإسلامية، وفنون الرقش والزخرفة والخط، تدل بوضوح على مقدرة المبدع المسلم على ابتكار أشكال لا حدّ لها، تتجلى في تلك المنشآت الضخمة التي نراها في أغرا وأصفهان وبغداد ودمشق والقاهرة والقيروان وقرطبة. والتي تعود إلى خمسة عشر قرناً من تاريخ الحضارة الإسلامية.

 

ولا يمكن أن ينسب هذا النوع إلى تعددية الحكام  والدويلات، ذلك أن المبدع وحده هو الذي صمم ونفذ هذه الروائع وليس الملك أو المالك الذي بقي المموّل والمشجع فقط، وهذا يعني أن هذه الأشكال والأساليب الفنية والمعمارية كانت  متعددة بتعدد مبدعيها، وليس بتعدد مشجعيهم، وان الإبداع المعماري والفني، قام على  رؤية  فردية قدمها المصمم، وعلى براعة تنفيذية قام بها الصناع المهرة.

 

وهكذا فإن (الشخصانية) التي أصبحت سمة الإبداع المعاصر كانت في الحضارة الإسلامية سمة العصور الإسلامية كلها.

 

(1) انظر كتاب الزركشي “إعلام السَّاجد بأحكام المَساجد”، طبع ، وزارة الأوقاف، القاهـرة، 1982م،     ص 275 -226.

 

(1) وردت هذه الأحكام في رسالة ماجستير للباحث عبد الرحمن صالح الأطرم، جامعة الإمام محمد بن سعود، الرياض.

 

(2) نلفت النـظر إلى أهمية هذه المراجع في البحث الجامعي، وهي:

 

ـ الهمداني، الإكليل، تحقيق الأكوع، (بغداد 1977 ـ 1980م)، ابن الكلبي الأصنام، تحقيق أحمد زكي، القاهرة،(1965م).

 

ـ ابن عساكر، تاريخ دمشق. نشرت  منه حتى الآن 49 مجلداً، عن مجمع اللغة العربية بدمشق.

 

ـ ابن الهيثم، المناظر، ج 1، المجلس الوطني، الكويت، (1982م).

 

ـ المقريزي، المواعظ والاعتباربذكر الخطط: والآثار، دار صادر، بيروت.

 

ـ الجاحظ في كتب: البخلاء، الحيوان، رسالة، التربيع والتدوير.

 

ـ التوحيدي في كتب : المقابسات، الإمتاع والمؤانسة، رسالة الكتابة. رسائل إخوان الصفا.

 

(1) كتاب عيون الأخبار، لابن قتيبة ـ مرجع مهم يمكن الرجوع إليه، وبخاصة الجزء الأول، طبع دار الكتاب العربي، القاهرة.

 

(1) أصدرت المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة في عام 1999 كتاب (القضاء بالمرفق في المباني ونفي الضرر) للإمام التطيلي ( تـ 386 هـ)، وهو من كتب التراث التي تعني بهذا الجانب من الحضارة الإسلامية.

 

(1) وردت هذه الشروط في كتاب المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر، ج 2، ص 65 – 48.

 

(2) ويراجع كتاب الإكليل، نشر بغداد 1977م، ج 1، ص 190-177، وج 2، ص 36-10.

 

(1) لقد عرضنا تفاصيل الهُوية الإسلامية في كتابنا، العمارة العربية (الجمالية، الوحدة، التنوع) نشر المجلس القومي للثقافة العربية، الرباط، طباعة، روما، 1990م.

 

(1) توسع جان سوفاجيه في دراسة مسجد الرسول، صلى الله عليه وسلم، في المدينة، انظر كتابه:

 

J. Sauvaget: La Mosque Omayyade de Medine, Paris, 1947.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

clip_image001

 

الفصل الثاني
تحديث فنون العمارة الإسلامية
 لفائدة ذوي الاختصاص في العالم الإسلامي وخارجه

 

أ) الأصالة والحداثة

 

أ.1. يُعَدُّ التراث المعماري الإسلامي ثروة حضارية لابد من العناية بها وحمايتها، ولابد من دراستها وإيضاح خصائصها وفوائدها، والعمل على إكمال مسيرة تطورها، لتصبح أكثر ملاءمة مع ظروف العصر والمتحولات الحضارية.

 

ولأن العمارة هي وعاء الحضارة، وتمثل الهُوية الثقافية والمستوى الإبداعي والجمالي للإنسان، كان لابد من التمسك بأصالتها، والعمل على درء الغزو المعماري الغريب الذي غير طابِعَ المدينة الإسلامية، وجعلها كوزموبوليتانية فاقدة الهوية والسمة، منقطعة عن الجذور والبيئة والإنسان.

 

أ.2. لقد استطاعت العمارة الإسلامية أن تنتقل من المضارب في البوادي إلى الأكواخ في القرى، ثم إلى المباني والأوابد في المدن، حاملة ملامح أصيلة، منسجمة مع متطلبات الإنسان ومع تقاليد وبيئته. ومن المؤسف أن هذه العمارة انقطعت فجأة عن التطور والنمو الصاعد بسبب احتياج طراز العمارة السهلة البسيطة، التي وفدت مع مستحدثات المدينة في الغرب، إلى جميع البلاد الإسلامية.

 

أ.3. ومما لاشك فيه أن مسوغ استقبال هذه العمارة الغربية كان تطور التقنيات الإنشائية، إذ دخل الإسمنت والحديد والزجاج في عمليات البناء والإكساء والزخرفة، وكان للكهرباء الدور الأكبر في تعديل مسيرة تطور العمارة التي اعتمدت كلياً على فوائد هذه الطاقة الجديدة، عند تمديد أسلاك الإنارة، أو بناء أبراج المصاعد أو تركيب أنابيب التدفئة والتهوية. حتى طغت هذه الإضافات على فن العمارة، فأصبح تابعاً لها. وفي بناء حديث مثل مركز بومبيدو في باريس، تبدو هذه الإضافات صريحة وواضحة، بل أصبحت أساسا للتصميم المعماري ذاته.

 

أ.4. ولقد تبين أن هذا الطغيان التقني كان خطيراً على فن العمارة، كما هو خطير على الإنسان الذي أصبح يزداد بعداً عن الطبيعة، طالما هو يزداد خضوعاً لظروف التقنيات ومفاعيلها الضارة. وارتفعت تكاليف هذه التقنيات حتى أصبحت عبئاً على اقتصاد المدينة، وهو عبء مستمر لا يمكن الاستغناء عنه بل يصبح غيابه وبالاً على البناء وتعطيلاً لوظيفته.

 

أ.5. لعبت السياسة الاقتصادية والاستثمارية دوراً سيئاً في امتصاص قدراتنا عن طريق جعل الاستهلاك التقني ضرورياً لابد منه، ولم يعد ممكناً تطبيق برامج ترشيد الاستهلاك، أمام منشآت ضخمة، من مطارات وفنادق، وجامعات مجهزة بتقنيات فائضة تستهلك قدرات هائلة من الطاقة، كان يمكن توفيرها لمشاريع منتجة أخرى. ومع ضرورة الإفادة من التقنيات الحديثة، فإن ما ننقده هو التجاوز المتطرف في استعمالها إلى الحد الذي تصبح فيه العمارة تابعة لها.

 

أ.6. تبقى مسألة التحديث في العمارة مرتبطة بالأصالة، وتبدو العمارة أكثر تعبيراً عن الهُوية، ولا يُعنى بمحاولة تحديث العمارة التفريط بالهُوية الثقافية، وبخاصة إذا كانت هذه الهُوية تتجلى من خلال قيم دينية سامية وبتراث عريق ثابت الشخصية. وليست عملية الربط بين الحداثة والهُوية صعبة، بل إن الحداثة الغربية ذاتها تهفو اليوم للعودة إلى الجذور.

 

ب) مآل الحداثة

 

ب.1. وصلت الحداثة في العمارة الغربية حد التطرف في الانقطاع عن التقاليد وعن الطبيعة وعن الإنسان، حتى انقلبت المدينة الحديثة إلى مجموعة من الكتل الهندسية المجردة، وفقدت العمارة الخارجية طابَعها التقليدي الذي عرف في أوروبا منذ العصور الكلاسيكية إلى عصر النهضة والباروك والكلاسيكية المحدثة والعصر الفكتوري، وظهر اتجاه جديد ينادي بالعودة إلى الهُوية أي العودة إلى الطابَع والشكل المعماري المنسجم مع البيئة والإنسان، وينادي بإنعاش الذاكرة التاريخية والقومية التي تحدد الهُوية المعمارية شكلاً وإبداعاً، بل عاد المعماريون إلى  القول إن السكن خلية عمرانية اجتماعية، وليس هو منشأة في فراغ اجتماعي، وهو بذلك يحقق أهدافاً ثلاثة، اللقاء مع الآخرين، والتوافق معهم؛ وتحقيق السكينة والتفرد. وتحدد الحياة ملامح معمارية مختلفة باختلاف الزمان والمكان، ولغة العمارة هي لغة الذاكرة، ويقول الفيلسوف (شولتز) لا يتطلب عصرنا لغة معمارية جديدة نختارها من بين النماذج الأصلية، نؤوّلها بحرية اعتماداً على ذكرياتنا المتنوعة، والتأويل يعني الكشف عن علاقات خفية أكثر مما يعني اختراعاً حراً، ولكن المعمار الألماني (ميس فان در روه) يقول على العمارة أن تخضع للحياه، وأن تخدمها، وليس عليها أن تفرض فرضاً على الإنسان والمجتمع مبرراً بذلك الحداثة التي دعت إلى ربط العمارة بالوظيفة، وإلى تعدد أشكالها بتعدد الوظائف. أي أن العمارة خرجت عن طابَعها الأصلي تائهة في عالم الابتكار والتجريد.

 

ب.2. لقد انفصلت العمارة الحداثوية نهائياً عن لغة العمارة، هذه اللغة التاريخية التي عبرت عن الإنسان الذي أنشئت العمارة من أجله، وبقيت العمارة بدون لغة وبدون هُوية، لأن اللغة هي المعبر عن الهُوية. ووجد النقاد أن العمارة الحديثة لا هُوية لها؛ ولا تساعد الإنسان على العيش في بيئته التاريخية والاجتماعية، ولقد كانت العمارة تعبر عن مفهوم قومي، ثم أصبحت اعتباطية فاقدة الشخصية، فالعمارة كما يقول (هيدغر) هي بيت الوجود الزاين.

 

ب. 3. إن إهمال لغة الذاكرة التاريخية في العمارة الحديثة، دفع المعمار إلى التعويض عن التاريخ بالحوافز الصناعية، فأصبحت العمارة الحديثة هواية ومغامرة اعتباطية، وقد أصبحت شعارات الحداثة دوغماتية.

 

ب.4. كان المعمار (جنكز) أول من أعلن نهاية  الحداثة، ونادى بعمارة ما بعد الحداثة Post-Modern، ولامست دعوته عواطف الناس الذين باتوا يبحثون، دون جدوى، عن ذواتهم الثقافية من خلال العمارة.

 

كان المؤرخ توينبي قد استعمل مصطلح ما بعد الحداثة منذ عام 1938 للإشارة إلى العولمة والتعددية الثقافية التي لا بد من ظهورها حسب طبيعة الدور التاريخي. وتعددت الأفكار التي تحدد معنى ما بعد الحداثة المعمارية، ولكن الاتجاه المشترك يدعو إلى الربط بين القديم والحديث، أي بين الأصالة والحداثة، إذ لا يمكن الدعوة إلى مجرد إحياء القديم، ذلك أن عالم التقنيات معاش على أوسع نطاق، ولكن من القديم نستطيع أن نحقق خَيارات متعددة، هذه التعددية Plurality هي من ميزات عمارة ما بعد الحداثة التي تجعل العمارة متجددة متنوعة حسب الثقافات المختلفة.

 

ب.5. يبدو أن الدعوة إلى الأصالة والحداثة في العمارة الإسلامية تتفق مع الدعوة إلى ما بعد الحداثة. ولقد استهوى هذا اللقاء بعض المعماريين المسلمين من أساتذة وطلاب، بل إنهم عادوا إلى آراء الفلاسفة والمعماريين القائلين بمذهب بعد الحداثة، دون أن يرجعوا إلى آراء وتطبيقات العمارة الإسلامية، فخضعوا مرة أخرى إلى التبعية، دون أن تتاح لهم فرصة التعبير عن الذات الثقافية في العمارة الحديثة التي توهموا أنها إسلامية.

 

ب.6. فطن المفكرون المسلمون إلى خطورة التبعية المعمارية لعالم الغرب، وكان علي باشا مبارك(1)، أول من لفت الانتباه إلى التبعية في العمارة حيث اتبع الناس في بنائهم الأشكال الرومية، وهجروا  الأسلوب القديم، ولما كثر دخول الفرنج هذه الديار المصرية، بعد إحداث السكك الحديدية فيها، أخذت صورة المباني تتغير فيبني كل منهم ما يشبه بناء بلده، فتنوعت صور المباني وزينتها وزخرفها. والواقع أن انتشار الطراز الغربي كان بفعل المستعمر وبفعل الانفتاح الاقتصادي، وكان تأثير الدعوة إلى التمغرب فعالاً في العمارة. إذ استقدم المسؤولون والأثرياء معماريين أجانب لإقامة بيوت لهم في جميع المدن الإسلامية، فظهر طراز أطلق عليه الطراز الكولونيالي، وهو طراز هجين ما زالت عمائره قائمة في الأحياء الجديدة أو في المدن الجديدة.

 

ج) الوعي بأهمية العمارة الإسلامية

 

ج.1. تبدأ الدعوة إلى الأصالة بإيقاظ الوعي التاريخي لفن العمارة الإسلامية. ومن المؤسف أن ثقافتنا المعمارية تعتمد على دراسة تاريخ العمارة الغربية أكثر من اهتمامها بتاريخ العمارة الإسلامية، ويتجلى ذلك في برامج التدريس الثانوي والجامعي التي تهتم بنظريات العمارة العالمية، دون البحث في نظريات العمارة الإسلامية. ويرجع ذلك إلى كثافة المصادر عن العمارة الكلاسيكية (الإغريقية والرومانية) والعمارة المسيحية (الغوطية والرومية والبيزنطية) وعمارة عصر النهضة وما بعدها.

 

ج.2. وعلى الرغم من اهتمام عدد كبير من علماء الآثار والبحاثة بالعمارة الإسلامية(1)، فإن ترجمة مؤلفاتهم إلى اللغة العربية واللغات الأخرى في العالم الإسلامي، جاءت متأخرة.

 

ج.3. ومن حسن الحظ أن لفيفاً من الباحثين المسلمين ابتدأ بالإسهام في كتابة تاريخ العمارة الإسلامية، أو في الكتابة عن الأسس الجمالية والفلسفية للعمارة والفن الإسلامي(2).

 

ج.4. وما يدعو إلى التفاؤل أن مادة العمارة الإسلامية ابتدأت تأخذ مكانها في معاهد الدراسات العليا في أصفهان وفي القاهرة وغيرها، وإن علم الآثار الإسلامي أصبح اختصاصاً بذاته. وتمثل الوعي بأهمية العمارة الإسلامية في تنشيط عمليات الترميم، وابتدأت دوائر الآثار في الأقطار الإسلامية بمباشرة حماية التراث المعماري في المدن والأحياء والمباني. وتبدو عمليات حماية المدن التاريخية اليمنية وبخاصة مدينة صنعاء وزبيد وشبام من الأعمال الناجحة في مجال حماية التراث المعماري.

 

وتقوم مؤسسات علمية بتشجيع هذه الحماية بمنح الجوائز والمكافآت، كمنظمة آغا خان في بوسطن ومنظمة المدن العربية في الكويت، واللجنة الدولية للحفاظ على التراث الحضاري الإسلامي في استنبول والرياض، ومنظمة العواصم والمدن الإسلامية في جُدَّة.

 

ج. 5. ومن المؤكد أن خصائص العمارة الإسلامية التي تقدم ذكرها، تبقى من الثوابت التي يجب استمرار تطبيقها في العمارة الحديثة، ويبقى التغيير والتطوير محصوراً في مستلزمات الحداثة، وهي:

 

1. استغلال التقنيات الحديثة، (الكهربائية والإلكترونية).

 

2. التكيف مع النظام العمراني الذي فرضته السيارة.

 

3. السير قدماً في تطوير فن العمارة وعناصر الزخرفة الداخلية، والإبداع فيها.

 

وهكذا يقوم فن العمارة الإسلامية الحديثة على ثوابت هي عناصر الأصالة، وعلى متغيرات هي عناصر الحداثة، وليس ممكناً تحديد عناصر الحداثة فهي في توسع مستمر، وزيادة مضطَردة، ولابد من الإفادة منها لإمداد العمارة الإسلامية بنسغ حي يجعلها ملائمة لظروف العصر ومقتضياته.

 

د) تحديث التصميم المعماري

 

د.1. ويبقى الإبداع في التصميم الخارجي والزخرفة الداخلية، من خصائص الفن الإسلامي الذي اتسم دائماً بالوحدة والتنوع والتطور، فلقد كانت مجموعة متعاقبة من الطرز دلت على حرية الإبداع في عالم الفن الإسلامي، ولقد أطلق عليها تسميات مرتبطة بالعهود السياسية، كالطراز الأموي والعباسي والفاطمي والأندلسي، والمغولي والصفوي والسلجوقي والعثماني، وهي طرز إبداعية؛ وليست أنظمة ثابتة Orders، كما في الفن الكلاسيكي الإغريقي والروماني. بمعنى أن الفنان  المزخرف يستطيع من منطلق مفهوم الفن الإسلامي، أن يبتكر أساليب لا حد لها تصبح مدارس جماعية أو فردية، كما هو الأمر في الفن التشكيلي عامة.

 

د.2. إن السعي وراء تطوير التصميم الخارجي، يتطلب العودة إلى تاريخ هذا التصميم منذ بداية فن العمارة الإسلامي، للتعرف على ملامح التصميم في كل عصر، وبذلك نستطيع رصد التحولات التي تمت عبر العصور وعلى اختلاف الأمصار، ضمن نطاق الوحدة الجمالية التي يتمتع بها الفن الإسلامي.

 

د.3. لقد ظهرت التصاميم المعمارية الأولى مستوحاة من التصاميم التي كانت سائدة في أرض الإسلام، والتي استمرت معلماً هاماً يستوحي منه الفنان في العصر الإسلامي. هذا الفنان الذي أسلم أو بقي على دينه، كان قد نقل تقاليد فن العمارة السائدة قبل الإسلام إلى العمارة الإسلامية، وكان هو نفسه قد قام قبل وبعد الإسلام بدور المعمار والمنشئ، أو هو الوارث المباشر لتقاليد العمارة، إذ لم يكن العرب المسلمون الفاتحون قد حملوا معهم أسساً لعمارة إسلامية، بل هو الفكر الإسلامي الذي نما وانتشر بين الناس بعد قرن من الزمن، فكان أساساً لمفهوم معماري جديد، سار حثيثاً  في مضمار الإبداع والتنوع، ولقد رافق تطور الفكر الإسلامي ظهور فكر جمالي تمثل في دراسات إخوان الصفا والجاحظ والتوحيدي وابن خلدون وغيرهم. وفي المشرق الإسلامي كان الشاه أكبر المغولي وأعقابه قد اشتركوا في دعم تطور الفكر الجمالي والإبداع المعماري.

 

هـ) تطور فن العمارة الإسلامية

 

هـ.1. لقد حكم الأمويون المسلمين الأوائل ، وكانت عاصمتهم دمشق الشام، وعلى امتداد الإمبراطورية الإسلامية التي امتدت في عهد الأمويين من الصين إلى الأندلس، كانت ثمة تقاليد معمارية أهمها التقاليد الرومانية والبيزنطية، التي فرضت هويتها على الأقل من خلال إعادة استعمال العناصر المعمارية في المعابد والمنشآت، من أعمدة وتيجان وسواكف وأفاريز في بناء المساجد الأولى، مثل المسجد الأقصى ومسجد دمشق ومسجد القيروان وجامع قرطبة وجامع القرويين بفاس.

 

هـ .2 . ولكن شروط الصلاة في هذه المساجد كانت سبباً في تأسيس مفهوم عمارة إسلامية؛ تختلف عن العمارة السابقة، لاختلاف وظائفها، واختلاف انتمائها العقائدي. وهكذا ظهرت المئذنة لتحل محل برج الأجراس، وظهرت القبة لكي تكون الشعار المعماري المعبر عن قبة السماء الحادبة على المؤمنين، وظهر المحراب موئلاً للزخارف والإبداع، وغطيت جدران المساجد بالرخام وبالفسيفساء لتغطية الأحجار القديمة المعاد استعمالها.

 

هـ.3. لقد كان عبد الملك بن مروان وولداه الوليد وهشام من أكثر خلفاء المسلمين اهتماماً بالعمارة، ومازالت آثارهم قائمة في دمشق والقدس ودياربكر والفسطاط والقيروان. ومازالت قصورهم قائمة في بادية الشام والأردن وفلسطين مثل قصر الحَيْر الغربي والحََيْر الشرقي وقصر المَشْتى الذي نقلت واجهته إلى مُتحف برلين، وقصر المُفَجِّر قرب أريحا في فلسطين وقصر عَنْجَر في لبنان، وقُصَيْر عَمْرةَ وحمام الصرح وغيرها في بادية الأردن. ولقد كانت العناصر المعمارية في القصور والمساجد تتمثل في الأقواس والسواكف والزخارف التشبيهيه، كما في قَصْرَي الحَيْر وقصر المُفَجّر وقُصَيْر عمره، أوغيرتشبيهيه كما في قصر المشتى وفي جميع النقوش الجصية التي توزعت في القصور والمساجد.

 

هـ.4. وتنتقل العاصمة الإسلامية من دمشق إلى بغداد في عهد العباسيين، وتبقى فيها حتى سقوط بغداد على يد المغول 656 هـ/1258م. فتتسم العمارة الإسلامية في هذا العهد بالتنوع بسبب التجزئة والانقسام السياسي، وبسبب النفوذ الثقافي الفارسي والتركي والجركسي الذي ظهر مع الإخشيديين والفاطميين ثم السلاجقة والأتابكة والأيوبيين والمماليك وأخيراً مع العثمانيين، عدا الدول التي حكمها المغول والصفويون في المشرق، والمرابطون والموحدون وأتباعهم في المغرب والأندلس. ومازالت كتب تاريخ فن العمارة  الإسلامية تتحدث عن خصائص كل أسلوب على حدة، وكأنه من نتاج الحكام، وليس من نتاج الصناع والفنانين المسلمين، الذين قدموا أساليبهم المبتكرة  بحسب براعاتهم وعبقرياتهم، وبحسب التقاليد السائدة في بيئتهم، مستوحين دائماً؛ وبشكل موحد من دينهم الإسلامي الحنيف. وما زال مؤرخو الفن بِحَيْرة عند تصنيف أساليب فن العمارة الإسلامية، وبعضهم يلجأ إلى التصنيف الجَغْرافي، وبعضهم يلجأ إلى التصنيف السياسي، ويفضل البعض اللجوء إلى التصنيفين الجَغْرافي والسياسي معاً.

 

هـ.5. نلاحظ تطور فن العمارة والزخرفة من خلال ظهور أنواع جديدة من الأقواس والقباب والأواوين، أو من خلال ظهور المقرنصات والشراشيف، أو من خلال تطور الخط العربي وتطور فن الرقش العربي بشكليه الهندسي والنباتي منقوشاً على الخشب أو الحجر والمعدن، أو من خلال تطور شكل المئذنة، والتي أصبحت علامة أساسية من علامات فن العمارة الإسلامية، بدءاًَ بالمئذنة السورية التي ظهرت في الجامع الأُموي بدمشق، وكانت مربعة انتشرت في شمالي أفريقيا، ومازالت شواهدها واضحة في القيروان وفي مراكش مئذنة الكتبية، وفي الرباط مئذنة حسان، وفي إشبيلية. وفي العصور اللاحقة نرى المئذنة الأسطوانية التي تعلو واجهة المسجد من طرفيه في أصفهان وبخارى، ثم نرى المئذنة الرشيقة ذات الشرفات المتعددة في العصر المملوكي في القاهرة ودمشق، كما نرى المآذن التركية العثمانية أشبه بالرمح المقذوف إلى السماء في مساجد استنبول وأدرنه وقونيه وبورصة.

 

هـ .6. لقد تميزت العمارة المغولية بإقامة الأضرحة  الضخمة كضريح تاج محل في أغرا وكضريح أكبر. وتميزت العمارة الصفوية بالعمارات المتكاملة، كما في ميدان شاه في أصفهان. وفي تركيا كانت الكليات، وهي منشآت تضم المسجد الضخم والمدرسة والمكتبة والضريح. وامتازت العمارة السلجوقية ببناء المدارس الضخمة كالمدرسة النظامية.

 

و) تطور الزخارف  والخط العربي

 

و.1. الزخارف التي انتشرت على الجدران الداخلية، وعلى القباب والمحاريب والمنابر مصنوعة من الفُسَيْفِساء أو الخزف أوالخشب أو الحجر، فلقد كانت كلها غير تشبيهية. ذلك أن الفن التصويري الإسلامي كان أقرب إلى التجريد، ولكن لم يكن ما يحرم التصوير التشبيهي، فالصور الجدارية التي نراها في قُصَيْر عَمْرَه الأُموي، وفي قصر الحَيْر الغربي وفي قصر المُفَجِّر، وكذلك النحت التشبيهي، تؤكد أن المنع والتحريم كان في حالة المضاهاة وتشبيه الخالق فقط. ومع ذلك فإن الجمالية التصويرية الإسلامية كانت تقوم على الرقــش الــعـربــــي Arabesque ، وهو تزويق بديع يقوم على معالجة الأشكال النجمية بأشكال مختلفة وبألوان جذابة، أو هو رسم مع التأويل والتجريد لنباتات لم تعد تحمل سماتها. وأول الزخارف الرقشية كانت في قبة الصخرة، وفي المسجد الأقصى بالقدس وفي الجامع الأُموي الكبير، وهي زخارف مرصوفة بأحجار زجاجية صغيرة هي فصوص الفسيفساء الملون، والتي كانت تقليداً فنياً متبعاً في بلاد الشام قبل الإسلام. ولقد قام بتنفيذ هذه الرسوم وبرصفها فُسَيْفسِائياً فنانون محليون. وإذا كانت مواضيع الفُسَيْفِسَاء في القدس نباتية أقرب إلى التجريد، فهي في الجامع الأموي بدمشق تمثل مشاهد مدن وحدائق وجسورًا، إلى جانب العناصر النباتية الزخرفية. ويذكر المؤرخون أن الوليد بن عبد الملك زيَّن مسجد الرسول، صلى الله عليه وسلم، في المدينة بالفُسَيْفسِاء. وانتقل التصوير الفُسَيْفِسَائي إلى الأندلس، لكي يبدو في بعض قباب جامع قرطبة.

 

والى جانب المساجد كانت القصور، وبخاصة قصر المُفَجِّر في أريحا فلسطين، حافلة بلوحات أرضية من الفُسَيْفساء، بعضها مجرد شكل هندسي دائري، وبعضها واقعي يمثل شجرة تفاح وتحتها أسد يطارد غزالاً.

 

والى جانب الفُسَيْفسِاء، كانت ثمة لوحات من الفريسك تكسو جدران قصر الحَيْر الغربي وقُصير عَمْرة مازالت حتى اليوم، تعبر عن  الفن التشبيهي في مرحلة الفن الإسلامي الانتقالية.

 

أما الرقش المجرد، فلقد استمر في سامراء على أشكال تنتسب إلى الفن الساساني، ثم انتقل في الفن السلجوقي ثم الفاطمي الأيوبي، لكي يصبح أكثر استقلالاً. وفي العصر المملوكي والعثماني تظهر الألواح الخزفية على يد الفنان (غيبي) ومدرسته في دمشق والقاهرة، أو على يد معلمي هذا الفن في كوتاهية وازنيك، الذين ملؤوا جدران قصور استنبول والأضرحة بروائع الألواح الملونة والتي تمثل أزهار الرمان والزنبق والورود محورة متناظرة أو مكرَّرة، وانتقل هذا الفن إلى دمشق، ومازالت الأوابد الأثرية حافلة بروائع ألواح الخزف الدمشقي(1).

 

و.2. إلى جانب الزخارف النباتية والهندسية، فإن الخطوط الجميلة التي تسجل الآيات الكريمة أو الأشعار كقصيدة البردة للبوصيري، أو ذكريات التأسيس، كانت من الآيات الفنية التي أغنت فن العمارة الإسلامية داخل المباني وخارجها.

 

ولقد كتب هذه الروائع خطّاطون أجادوا في إبداع نماذج رائعة للخط العربي، كالخط الثلث والكوفي، نذكر منهم المستعصمي وحمد الله الاماسي والحافظ عثمان وإسماعيل حقي وراقم وسامي ورسا وعبد العزيز الرفاعي، وزهدي الذي كتب على جدران الحرم النبوي في المدينة المنورة آيات قرآنية. وبرع شفيق بك بكتابة خط المثنى على جدران جامع أولو في بورصه. وفي العصر الحديث قام الخطاط الرسام (صادقين)  في لاهور (باكستان) بتطوير الخط العربي وجعله صورة مشهدية، نقلها على جدران المباني الإسلامية الحديثة وفي مُتحف لاهور. وأهم أنواع الخط العربي، هي الكوفي وقلم الثلث والرقعي والنسخ والفارسي التعليق والديواني والمغربي، ولقد برع الخطاطون في التكوينات الخطية التي دلت على مهارتهم وعبقريتهم، وعلى قدرة الخط العربي للتشكيل الفني، وهذا ما دفع الفنانين المعاصرين إلى استغلال الحرف العربي، في صناعة اللوحة التشكيلية الحديثة، إلى جانب تحديث الرقش العربي وإعادة صياغته حسب معطيات الفن الحديث(1).

 

ز) الانتماء والإبداع

 

ز.1. لقد عاد المعماريون في العالم اليوم إلى التقاليد الأصيلة للعمارة، ونظروا إليها من خلال ظروف العصر وشروطه، واستطاعوا أن يقدموا عمارة منتمية، ولكنها لا تخلو من الإبداع. وابتدأ المعمار في البلاد العربية والإسلامية بتحقيق هذا الهدف، الانتماء والإبداع، واستطاعت لجان التحكيم في مسابقات جائزة أغاخان. ومسابقات المنظمة العربية للمدن، وجائزة الملك فهد، أن تكتشف مواهب عدد من المعماريين الذين استطاعوا أن يحققوا هذه النقلة الصعبة من التراث إلى العصر، أو من العصر إلى التراث. ولابد أن نحلل العوامل التي ساعدت على نجاح هؤلاء المعماريين في مشروع التأصيل الذين أثبتوا كفاءتهم فيه.

 

ز.2. إن أول عنصر من عناصر التأصيل ، هو أن نعرف خصائص العمارة الإسلامية التي اعتبرت الشكل التراثي الأضخم، والذي استوعب فروعاً تراثية كثيرة أخرى.

 

وأوضح هذه الخصائص، كما ذكرنا، هو الجَوََّانية، بمعنى: إن العمارة  الإسلامية هي عمارة مستقلة عن الخارج منكفئة على الداخل، وجميع العناصر المعمارية من فراغ وكتل وخطوط وزخارف يعيشها سكان العمارة، وقد لا تكون هذه العناصر مرئية من الخارج أبداً، إذ ليس المعمار مسؤولاً عن تنظيم وتطوير المدينة وتجميل المدينة بشوارعها وساحاتها، بل هو مسؤول عن تنظيم وتجميل المبنى الذي سيخدم ساكنه وشاغله بحسب وظيفته.

 

إن هذه الحقيقة تبدو أكثر وضوحاً في المباني العامة، وبخاصة المساجد الأولى التي كانت مسورة بجدران عالية تنفتح فيها أبواب عادية، ولم تكن هناك عناصر اتصال أخرى بالخارج، ولكن ثمة عناصر اتصال بالسماء تتمثل  بالصحن كفِناء مفتوح، وبالمئذنة والقبة، الأولى تعبر عن التسامي لاختراق  أسرار الفضاء، والثانية تعبر عن القبة السماوية. إن المشهد الخارجي للمسجد المتمثل في القبة والمئذنة وكتلة البناء، هو المشهد الذي يسهم في تكوين فراغ المدينة، ويعزز هُويتها.

 

ز.3. الحقيقة الثانية للعمارة الإسلامية هي المقياس الإنساني، فالغرض الأساس من العمارة، هو تحقيق السكينة والثقة لمن يشغل هذه العمارة، سواء كانت عامة أو خاصة. فالأصل هو الإنسان وحاجاته وطموحاته، ومنه تتسلسل مراحل العمارة دون أن تنفصل عنه في أي مرحلة من مراحله، فالإنسان يحتاج مكاناً يحقق راحته وأمنه وسعادته ضمن حدود الكفاية أولاً، فينشئ لنفسه غرفة تتطلب نوافذ يتمتع بها هو، فيشرف على مشهد خاص به بعيداً عن فضول الآخرين، وعن الضجيج والتلوث، فكان له الفناء الداخلي الذي أحيط بغرف أخرى، وأصبح هذا الفِناء جنته فيها الأشجار والرياحين والورود، وفيها برك الماء، وكان لابد من ركن مظلل يجتمع فيه ساكنو البيت للتمتع بمشهد هذه الجنة الرائعة، فأوجد الإيوان، ولم يكن له بد من تزويق وزخرفة حواشي الأقواس والأبواب والسقوف والجدران لتؤكد معنى العمارة من جهة، ولكي تحتفظ بذكريات المشاهد الجميلة والزخارف التي يعرفها منقوشة على المخطوطات والأشياء.

 

ز.4. يتجلى المقياس الإنساني في العمارة الإسلامية في تحقيق التوازن المُناخي أو ما يسمى التكييف، ليس عن طريق إضافة أجهزة بل عن طريق التكوين المعماري، وكان أهم ما لفت اهتمام المعمار هو “العزل” أي تخفيف أوصد المؤثرات المُناخية الخارجية عن المسكن . وهذه المؤثرات تتمثل في  الرياح والحرارة والملوثات. وأكثر المدن الإسلامية ذات مُناخ قاري شديد الرياح والغبار، ولحماية المبنى من هذا المُناخ، كان لابد من تحقق شروط معمارية أساسية نجملها بما يلي:

 

1. زيادة سماكة الجدران لتحقيق العزل، وبناؤها بالطين والخشب، وهي مادة عازلة بطبيعتها.

 

2. زيادة ارتفاع الغرف؛ وبخاصة القاعات والأواوين، لجعل الهواء نقياً لا ينقصه الأوكسجين، ولا تؤثر فيه الشوائب الهوائية.

 

3. رفع أرضية الغرف في الطابَق السفلي عن مستوى أرض الفِناء لكي لا يتسرب هواء الخارج إلى الداخل حاملاً الحرارة المختلفة والغبار الملوث.

 

4. الاهتمام  بالفناء الداخلي، الذي يختزن هواء نقياً معتدل الحرارة والرطوبة، ويكون حاجزًا لمنع جريان الهواء العلوي من النفوذ إلى البيت، ذلك أن هذا الفِناء هو كالوعاء الكتيم ليس له منافذ سفلية تسهل عمليات جريان الهواء. وهكذا  فإن الهواء الخارجي، مهما كان شديداً عاصفاً، يحوم فوق الفناء، ويمضي حاملاً معه حرارته وغباره وملوثاته.

 

إن نظام (البادغير) الذي مازالت آثاره قائمة في أكثر المنشآت الإسلامية، هو أفضل طريق لتنظيم واستغلال الهواء الخارجي، وجميع الملاقف الهوائية التي دخلت عضوياً في تصميم العمارة الإسلامية، كانت ومازالت هي الوسيلة الأكثر جدوى لتحقيق التكييف الطبيعي.

 

ز.5. على أن التحول المفاجئ في شروط التحضر المعاصر، جعل العمارة التقليدية عاجزة عن التكيف معها، لقد دخلت السيارة الحديثة عاملاً وأساساً في تنظيم المدينة وشوارعها، وكان لابد للعمارة أن تنقاد، وتتبع العمران الحديث الذي قسم المدينة مسبقاً،  إلى مقاسم محددة فرض عليها شروطاً في المرافق والارتفاع والواجهات. فظهرت عمارة منسجمة مع المدينة أولاً، خاضعة للقياس والقانون الرياضي أكثر من خضوعها للقانون الإنساني، وتوالت المكتشفات الحرارية والكهربائية والإلكترونية، وتسابقت المصانع لإيجاد حلول لمشكلات العمارة الحديثة التي افتقدت التكييف الطبيعي، وافتقدت المشهد الداخلي والارتفاع المحدود الذي لا يتجاوز طابقين، وأصبح الإنسان خاضعاً، أيضاً، لسيطرة الإنتاج التقني الجديد، الذي ساعده ولاشك على تحقيق راحته واستقراره، دون أن يفطن إلى ضرورة تحرير المسكن والمبنى من سيطرة هذا الإنتاج، واستغلاله ضمن الحدود الدنيا الضرورية، مسترجعاً الوسائل الطبيعية التي كانت تقدمها العمارة التقليدية التي التحمت عضوياً بهذه الوسائل.

 

ز.6 . إن الصحوة المعمارية الحديثة تقوم إذن على مبدأين أساسين.

 

أولاً: تبني خصائص العمارة التقليدية، وهي المقياس الإنساني.

 

ثانياً: استغلال التقنيات الحديثة ضمن حدود المقياس الإنساني نفسه.

 

ح) تطبيقات العمارة الإسلامية الحديثة ـ عرض وتحليل.

 

ح.1. لعل أول من أثار الانتباه إلى الحداثة في العمارة هو علي باشا مبارك في مصر في كتابه الخطط التوفيقية، وقد أدهشه هذا التحول المعماري نحو الطراز الغربي الذي ابتدأ منذ عهد محمد علي  باشا 1801) 1848 -م)، ونادى بثورة الحداثة. على أن حسن فتحي(1)، كان المعمار الذي دخَّل ثورة الأصالة  والحداثة، عملياً وليس نظرياً. وكان دخوله من باب الفقراء الذين يدركون بالفطرة حاجاتهم السكنية الأساس، ويقدرون شروط سكنهم، وينفذون بأنفسهم منشآتهم ببساطة وحكمة وإبداع، دونما قواعد هندسية ونظريات، ودونما وسائل معقدة، حتى أنهم ينشؤون القباب والأقواس والسواكف دونما قوالب، وكانت وسيلتهم الأساس الخيط، به يقيسون ويحددون أقطار الدوائر؛ ويرسمون ويحددون الشاقول. ويقول حسن فتحي إن سكان كل مِنْطَقةٍ في العالم هم الأكثر إدراكاً لمتطلباتهم البيئية، ولطريقة تكييف العمارة لخصوصيتهم من الناحية الاجتماعية والصحية، وقد توارثوا هذا الوعي المعماري، ولذلك فهم مرجع أصيل. ويقول، أيضاً، إن الطين الذي منه يصنع الطوب اللبن هو مقاوم للزمن، وهو أفضل مادة إنشائية، وبه تتحقق البساطة والجمال والحماية وقلة التكلفة.

 

إن قصة مشروع  بناء قرية “القرنة” الواقع على الضفة الغربية من نهر النيل مقابل مدينة الأقْصُر، قصة معروفة، أصبحت قضية شعبية عرضت في فيلم على شاشة السينما، ولقد وردت تفاصيلها المعمارية في كتابه المشهور، والذي طبع بأكثر من لغة بعنوان “عمارة من أجل الفقراء”، في هذا المشروع حقق حسن فتحي عملياً أفكاره التي كانت خلفية أعماله التي كانت سبب نجاحه وشهرته العالمية وحصوله على جوائز كبرى.

 

ح.2. لقد نقل حسن فتحي تقاليد الفلاحين المصريين في البناء خارج مصر، وكان عنوانه دائماً: إن الأصالة هي في مبادئ البسطاء، وليست في رياضيات العلماء. وإلى نيومكسيكو في أمريكا، مضى حسن فتحي، ومعه معلمان معماريان من النوبة في مصر، لكي يباشر بناء مسجد متوسط الحجم من الآجر ومدرسة من الحجر، وكلاهما قطعة من عمارة القرنة.

 

ح.3. لابد أن نقف قليلاً أمام بيت الريحان في الكويت الذي أقيم على مِساحة واسعة (1850م2) يحوي ثلاثة أحواش مكشوفة وحوشاً مغطى بقبة خشبية، وهو مؤلف من طابََق واحد بمناسيب مختلفة، واعتمد حسن فتحي في بنائه على مواد متوفرة (الطوب اللبن)، واستخدم لتغطية أجزائه القباب والقبوات والعقود، كما استخدم الأعمدة والأكتاف والجدران الاستنادية. وفي واجهاته تنفتح شبابيك مربعة ومستطيلة ومشربيات. ويبدو البيت من الخارج بسيطاً، ولكن اتصاله الخارجي، يبدو من خلال كتلته العلوية التي ترسم في الفراغ  شكلاً أصيلاً بانحناءات القباب ومكعبات الأبراج، والملاقف والبرج القنديلي الذي يعلو قاعة الاستقبال.

 

ح.4. يتكون البيت من قسمين، قسم الاستقبال وقسم المعيشة، ولقد زود البيت بجميع الوسائل الحديثة المريحة، على أن زخارفه كانت معمارية مستوحاة من البيئة المعمارية المحلية، أو هي تشكيلية، وتبدو في تغطية النوافذ والمشربيات والسقوف؛ وبخاصة سقف قاعة الاستقبال.

 

ح.5. نستطيع القول إن عبد الواحد الوكيل، المعماري المصري الشاب (ولد سنة 1943) هو من أكثر المعماريين ولاء لحسن فتحي، وهو يقول، إن جميع الفنانين والمعماريين الذين أحرزوا نجاحاً قد تذوقوا القديم وتأثروا به، ولم يهملوا التاريخ، وهو يعترف أن العمارة الإسلامية التقليدية كانت متغيرة بفعل الظروف السياسية والبيئية، ولكن التغيير لا يعني دائماً التقدم، فالتغيير الذي طرأ اليوم على العمارة العربية الإسلامية، هو محاكاة سافرة للغريب، بداعي الاندماج بالنظام المعماري العالمي، هذا النظام الذي يرمي إلى ترويج  المنفعية، حيث يعمل الثراء المفاجئ على استغواء الجديد غير المسترشد بالمبادئ التقليدية، مما يفسح المجال واسعاً لفقدان الهُوية، والمطلوب اليوم هو إثارة الإحساس بالالتزام والانتساب إلى فن العمارة التقليدية الخاص بنا.

 

ح.6. لقد فاز الوكيل بجائزة الأغا خان عام 1980 عن تصميمه لمسكن العجمي في القاهرة، وقد أسهم على هدى معلمه حسن فتحي في تطوير القرية السياحية بمصر عام 1972. ويبدو تعلقه بمبادئ حسن فتحي واضحاً في تصميمه الذي نفذه بمِنطََقةِ جُدة الجديدة لبناء قصر السليمان، الذي يذكرنا كثيراً بقصر الريحان في الكويت، وكذلك ببيت حمدي في الجيزة بمصر.

 

ح.7. أما المسجد الذي أنشأه في كورنيش جُدة، أيضاً، فهو يتسم بالبساطة ورشاقة الخطوط والاستقلالية، ويبدو كأنه مسجد في واحة أو قرية صغيرة، أو هو فعلاً كتلة نحتية توزعت في نقطة من نقاط كورنيش جدة، شأنها في ذلك شأن التماثيل الثمينة التي زينت هذا الكورنيش بتوصية المهندس القدير محمد سعيد الفارسي الذي كان أميناً لمدينة جدة، الذي أحرز جائزة المنظمة العربية للمدن، لترميمه أحياء جدة القديمة وبيوتها التقليدية، وتوظيف بعضها لأغراض حماية التراث المعماري المحلي.

 

ح.8. إن مساهمة المعماريين المسلمين في عمليات تأصيل العمارة الإسلامية الحديثة تبدو حيوية وهامة، ولابد من لقاء يجمعهم مع زملائهم العرب لتبادل الآراء والأفكار، ونذكر من هؤلاء  المعماريين كولزار حيدر المهندس والمعمار الباكستاني الأصل، والذي يعيش في أتاوا (كندا) يدرس في جامعة كارلتون، وهو خبير وعضو مجلس مركز أبحاث التاريخ والفنون والثقافة الإسلامية باستنبول.

 

ح.9. ومن أعمال (كولزار حيدر) البارزة تصميم مركز إسلامي عام 1982، في بلين فيلد (انديانا ـ الولايات المتحدة)، وهو مؤلف من مسجد يستوعب 500 مُصَلٍّ، ومن مكتبة أبحاث تضم مِائة ألفِ مجلدٍ، ومن قسم إداري، ومن قسم تربوي مع مدرج، ومهاجع تتسع لـ 500 طالبٍ لفترة محدودة، وملاعب ونوادٍ. ومن المؤسف أنه لم ينفذ من هذا المجمع سوى المسجد الذي أنشئ على مِساحة مربعة مقسومة إلى حرم وصحن، تعلوه من جانب غربي مئذنة قليلة الارتفاع، ومجمع مقر الجمعية.

 

ح.10. وللمعمار (حيدر) ثمة مسجد آخر أنشئ في جامعة اركانساس بتمويل سعودي أنجز عام 1984، وهو بناء مؤلف من مجموعة كتل مكعبة، جدرانه الخارجية مخططة عرضانياً بلونين ضمن أشرطة، وتعلوه مئذنة مربعة حتى شرفتها، ثم ترتفع المنارة مثمنة تحمل قِمْعاً إسمنتياً؛ وهي مئذنة بسيطة مخططة، أيضاً، ويعلو بناء الحرم من الخارج زخرفة كتابية قرآنية بالخط الهندسي، ويلحق بالمسجد مِيضأة في فِناء(دِلِّيجِ) المدخل، وحرم المسجد مستطيل فيه محراب، وله سقف مسطح ليس له قبة.

 

ح.11. إن أهمية هذا المسجد في ارتباطه بتقاليد العمارة الإسلامية، ولكن مع محاولة جادة للتوفيق مع الطابَع العمراني للمدينة، وهي مشكلة لم تكن سهلة أمام المعماريين الذين أرادوا أن يستضيفوا في بيئة عمرانية غربية، مسجداً أو منشأة إسلامية قادرة على الانسجام مع البيئة المعمارية المجاورة.

 

ولابد هنا أن نقدم أثراً آخر للمعمار (حيدر) هو مركز الجمعية الإسلامية لشمالي أمريكا (بيت الإسلام)، وفيه يبدو التلاقح بين مفهوم الأصالة المعمارية الإسلامية، وبين مفهوم ما بعد الحداثة الغربي.

 

ح.12. في إسلام آباد العاصمة الجديدة للباكستان، أنشئ مسجد الدولة الكبير عام 1988، يحمل اسم مموله الملك فيصل. ولقد قام المعمار التركي الشاب وداد دالوكابي بتصميمه. ولقد استوحى بناء كتلة الحرم من الخيمة، كما استوحى المآذن الأربع من المئذنة العثمانية، والبناء لا يعتمد على عضادات أو حوامل، وسقف الحرم محمول بذاته تدعمه المآذن الأربع التي أصبحت كأوتاد الخيمة وسواريها. وفي داخل الحرم الفسيح (4900م2) محراب رخامي على هيئة كتاب، ومنبر رخامي، ولقد غطى جدار القبلة بقيشاني ازنيك الحديث، وصمم هذا المحراب والمنبر المعماري الباكستاني غولجي.

 

ترتفع المآذن تسعين متراً، ولقد ألغيت فيها الشرفات البارزة، واستعيض عنها بأربع شرفات داخلية، وقاعدة المئذنة مخروطية على غرار المآذن في استنبول، وفوق المآذن جوامير مطلية بالذهب، ويبلغ وزن جامور الحرم ستة أطنان ونصف، ويلحق بالجامع الكبير جامعة للعلوم الإسلامية تضم كليات متعددة ومكتبة ضخمة.

 

ويبدو من تفاصيل هذه العمارة الرائعة أنها استوحت طرازها وطريقة إنشائها من الخيمة وسواريها. وليس من العمارة التقليدية، وهو شكل جريء وطريف من أشكال تأصيل العمارة الإسلامية الحديثة.

 

ح.13. إن بناء قصر الثقافة في مدينة الجزائر هو أبرز معلمة معمارية تحققت فيها الأصالة بوضوح. ولقد استحق هذا المبنى جائزة المشروع المعماري عام 1988؛ التي تمنحها كل سنة المنظمة العربية للمدن. ولقد ورد في تقرير لجنة التحكيم: >إن مصمم البناء قد أفلح في اختيار نسب هندسية  مترابطة، سواء على صعيد التفاصيل الداخلية الدقيقة أم على صعيد أبعاد الكتلة المعمارية بأجزائها الرئيسة، حتى تكاملت الأجزاء؛ وارتبطت بعلاقة هندسية بصرية جيدة، تمخض عنها ذلك المبنى الذي وصل حلقات الماضي العربي الخالد بالحاضر الجزائري المعاصر<.

 

ح.14. البناء هو مجمع كبير أنشئ على إحدى روابي مدينة الجزائر العاصمة المطلة على البحر، ويتألف من فِناء مستطيل، تتوسطه بركة، ويحيط بها في المستوى الأرضي رواق  محمول على أقواس أندلسية ذات أعمدة متوجة ، مما يحاكي العمارة الأندلسية في مدينة الزهراء وقصور الحمراء. ويتكرر هنا هذا التقليد المعماري، الذي انقطع بظهور الأسلوب الكولونيالي الاستعماري، إبان الاحتلال الفرنسي.

 

ح.15. لقد تحقق هدف جائزة الملك فهد للتصميم والبحث في مجال العمارة الإسلامية التي تتولاها اللجنة الدولية  للحفاظ على التراث الحضاري الإسلامي، هذا الهدف المتمثل في تشجيع الكشف عن عناصر الإبداع المعماري الإسلامي والاستيحاء منها، وتحقيق حوار بين المعماريين لإيضاح روح هذه العمارة، لتكون أساس عمارة المستقبل، للتعبير عن التطبيقات الإسلامية الاجتماعية، وجسراً يربط بين التقاليد والمستقبل، ومن خلال الأعمال المقدمة للجائزة تبين أن الاهتمام بهذا الهدف؛ هو هاجس عدد من المعماريين في العالم كله، في أوروبا وأمريكا وآسيا، وقد لفت النظر إلى مشروع قدمه معمار شاب من الصين هو دان زو  Zhou Dan الذي قدم وحدة سكنية في مدينة شيشوان، فهي بناء مكعب مغلق بدون تتمات وبدون زخارف، له مدخل بسيط يؤدي إلى بهو يصل إلى الغرف في الطابق السفلي، وثمة سلم خشبي في مِنْطَقةِ الفِناء المفتوح نحو السماء، يؤدي إلى أروقة تحيط غرف النوم في الطابق العلوي. ويتمتع هذا البناء بقوة الربط والبساطة والزخرفة الجدارية، ولقد حقق الشرطين الأساسيين، المقياس الإنساني، ووسائل المدينة المعاصرة. كما تحاشى المفارقة في الأسلوبين الإسلامي والصيني، إذ بدت الواجهات صماء حيادية. وبقي السكن لإنسان يريد أن يستقل في عالمه محتفظاً بعواطفه وعاداته وتطلعاته واستقلاله عن العالم الخارجي الغريب حضارياً  ومعمارياً.

 

ط) جوائز التحديث والتأهيل والدراسات النظرية

 

ط .1. إن استجابة المعماريين لدواعي وأهداف الجوائز المعمارية الإسلامية، قد شجع على القول، إن الطريق إلى عمارة إسلامية معاصرة ومستقبلية أصبحت معبدة واضحة، ولكن هذه التصاميم والمشاريع الإبداعية تحتاج دائماً إلى دراسات نظرية قد تقوم المنظمات الوطنية ودورياتها بسد هذا النقص. وتتضمن جوائز الملك فهد جائزة خاصة لأبحاث العمارة الإسلامية، ولقد حصرت هذه الجائزة بالأبحاث الأكاديمية يقوم بها معماريون  واختصاصيون ناشئون.

 

ط .2. يسعى بعض المعماريين إلى تعميق أبحاثه النظرية لدعم مذهبه المعماري التطبيقي، نذكر منهم المعماري بديع العابد (من الأردن)، والمعماري راسم بدران (من فلسطين). ولقد حددت اللجنة الدولية معايير عامة لتقويم التصاميم المعمارية، وهي التالية :

 

العمران وتفاعله مع البيئة، العمارة للتعبير عن المتطلبات الإسلامية الاجتماعية، ولتكون داعماً لأسلوب الحياة الإسلامية، وجسراً يربط بين التقاليد والمستقبل.

 

ط.3. ولقد استطاع  رِفْعَتْ الچادرچي (من العراق) أن يدعم أعماله المعمارية بفكر جدلي نقدي تبدى في عدد من مؤلفاته، وبخاصة كتاب “مفاهيم ومؤثرات نحو فن معماري دولي ذي أساس إقليمي”، وهو يرى أننا نستطيع أن نغني تاريخ العمارة المعاصرة بعمارة إقليمية نابعة من العمارة الموروثة، وهو يرى أن العمارة نتاج تفاعل جدلي، فليس من مساواة بين الخصوصية الإقليمية وبين النقل من الماضي، فلكل عصر تقنياته وتعبيراته وقيمه الجمالية الخاصة، كما أن الهروب إلى الماضي ما هو إلا تعثر في سياق التقدم المرموق.

 

ويؤكد الچادرچي على فكرة مهمة، وهي أن العمارة  العالمية لا تزدهر وتغنى إلا بإعطاء فرص للبعد الإقليمي، الذي يثري الدولية المعمارية.

 

ط.4. لقد استطاعت الجوائز المعمارية أن تدفع بالإمكانات الإبداعية للظهور ساعية إلى الأفضل في مجال خلق عمارة إسلامية تنتسب إلى هذا العصر، وفي تكوين معماريين ملتزمين مع تعميق فهمهم لخصائص هذه العمارة الحديثة الأصيلة. ويجب الاعتراف أن دور لجان التحكيم كبير جداًً مهم في وضع الأسس التي يمكن أن تقوم عليها العمارة في عصرنا هذا، فلجان التحكيم المؤلفة من معماريين ومؤرخي فن وعلماء اجتماع وأثريين، قادرة على وضع الحدود الدقيقة للعمل الناجح، وفرض الشروط العلمية لتحقيق الأصالة  المعمارية. ولابد أن يكون واضحاً أن ما تقدمه هذه الجوائز والمسابقات من شواهد ناجحة على العمارة الإسلامية الحديثة، سيبقى مثالاً وأنموذجاً لدارسي العمارة الإسلامية، وسيدخل تاريخ هذه العمارة من بابه العلمي العملي.

 

ط.5. نستطيع استخلاص بعض الأسس التي قامت عليها قرارات لجان التحكيم، في منح جوائز، لنرى إلى أي حد يمكن أن تتوضح اليوم فلسفة العمارة الإسلامية الحديثة:

 

أولاً: إن أهم أساس أن ينتسب موضوع العمارة لفن العمارة، وليس لفن الزخرفة أو النحت، كما تم في غرناطة وبعض المساجد والقصور، ويجب أن نذكر على ذلك مثال بناء المجلس الوطني في دكا عاصمة بنغلادش، فمع أن شهرة المعمار ( لويس كاهن) أصبحت عالمية، فإنه قدم نموذجاً رائعاً من النحت والزخرفة الفراغية في هذا البناء، ولكنه لم يقدم نموذجاً على فن العمارة المحضة.

 

ط.6. ثانياً: أن ترتبط المنشأة المعمارية بالمجتمع الذي تنشأ فيه من حيث كونه مجتمعاً ريفياً أو مدنياًً، فقيراً أو غنياً، كما تم في مدينة حسن فتحي.

 

ط.7. ثالثاً: أن ترتبط هذه المنشأة بالتاريخ والجَغرافيا، فليس من المعقول أن نقيم في الصين بناء من الطراز المملوكي أو العثماني، أو نقيم في ألمانيا مصنعاً للتبغ والدخان نستوحي منه بناء المساجد المصرية والعثمانية. ولكننا نقبل أن يقام بناء مسجد (نيوتيد) في بكين، لأنه أكثر انتماء لتاريخ وجَغْرافية الصين، وإن كنا نشعر بجمال الثقافة الإسلامية من خلال مسجد (ابتليكا) في (كاشي) (الصين).

 

رابعاً: أن تتلاءم العمارة الإسلامية الحديثة مع الحضارة القائمة والأسلوب المعماري الشائع، وهذا ما يطلق عليه اسم العمارة في موطنها at home Architecture.

 

مع ذلك فإننا نجد أنفسنا مضطرين أحياناً لإقامة عمارة إسلامية حديثة في وسط حضاري مختلف نشأت فيه أو انتقلت إليه جالية إسلامية، كما يتم في أوروبا وأمريكا،  فهذه العمارة الزائرة تحتاج إلى رعاية خاصة، تخفف من حدة اختلاف الشخصيات المعمارية. إن هذا يتوضح بجلاء في تعدد الشخصيات المعمارية في الحي الدبلوماسي في الرياض. لقد استطاع المصممون أن يخففوا من حدة التعددية بابتكار فضاء حدائقي ينتمي إلى البيئة، وإقامة مجمعات كبيرة ذات طراز عربي محلي، هكذا أصبحت ملامح الحي موحدة، ولكنها أشبه بالوحدة المُتْحفية التي تضم أنماطاً استعراضية لطراز الفن المعماري الحديث في العالم.

 

ولابد من التذكير أن مسألة التوفيق بين أسلوب العمارة المضيف والأسلوب الضيف، كانت موضوع التصاميم المرشحة لجائزة الملك فهد للتصميم والبحث في مجال العمارة الإسلامية، في دورتها الأولى1986-1985 .

 

ط.8. خامساً: يجب أن يكون الإبداع المعماري الحديث مفهوماً بمنطق الجمالية الإسلامية، وليس شرطاً لذلك أن يكرر عناصر تقليدية إلا عندما يكون ذلك ضرورياً من الناحية الثقافية أو التاريخية، فالمساجد التي أنشئت في (كوالالامبور) و(بريوني) و(سلطنة صُباح) انفصلت عن التقاليد الهندية والصينية، ولكنها لم ترتبط بالجمالية الإسلامية.

 

ط.9. سادساً: عدم الانزلاق إلى التبعية الغربية، وهو شرط هام، وبخاصة بعد أن توضحت أكثر فأكثر مبادئ مدرسة ما بعد الحداثة Post Modernism، وبعد أن تدخل في تصميم المنشآت الإسلامية، معماريون عالميون يميلون إلى هذه المدرسة. ونقول بعدم الانزلاق إلى هذا التيار خشية العودة إلى التبعية وإلى ضياع الشخصية المعمارية الإسلامية من جديد، وهذا ما نراه واضحاً في عمارة المجلس الوطني في (دكا) التي تنتسب بوضوح لمدرسة ما بعد الحداثة، ولا تلتقي مع الأصالة المحلية.

 

ط.10. إن منزلق الانحراف نحو ما بعد الحداثة، يبدو أكثر سهولة عندما نرى أن الأصالة، وما بعد الحداثة اتجاهان معاديات للحداثة Modernism بصفتها التجريدية غير المنتمية، ولكن ما بعد الحداثة تعود بالمعمار الغربي إلى تاريخه وتراثه هو، حيث يراه في الفن الروماني والقوطي والباروكي والفكتوري والكلاسي المحدث…إلخ. وليس من الممكن اتباع هذا المذهب. ولكننا مع ذلك نفهم الأصالة من خلال وحدة الهُوية المعمارية، ومن خلال التعددية Pluralism، ونحن نشترك مع مدرسة ما بعد الحداثة في هذا، على أن نفهم جيداً أن الهُوية المعمارية الإسلامية ليست أبداً هي الهُوية المعمارية الأوروبية أو المسيحية(1).

 

ط.11. إن هذه الشروط الأولية التي لابد أن تأخذ لجان التحكيم بها، ولابد أن تدخل في توصيف العمارة الإسلامية الحديثة، نراها ماثلة باطّرادٍ في كثير من المباني العامة والخاصة التي تنشأ في البلاد العربية الإسلامية. ويجب أن نسوق مثلاً على هذه المباني التي يقوم بتصميمها معماريون محليون أو أجانب، عمارة وزارة الخارجية في الرياض، التي استحقت جائزة الأغا خان عام 1985 بجدارة، وهي للمعمار هينينجHenning Larsen، هذه العمارة تستطيع أن ترسم شكل العمارة السعودية في المستقبل، فلقد ارتبطت بتقاليد العمارة  المحلية، وهي إسلامية ِصْرف، واستجابت لظروف المُناخ وللوظيفة وللمحيط العمراني، وعبرت عن جدية العمارة وجلالها بوصفها مقرًّا لوزارة الخارجية، موئل الأجانب والممثلين الدبلوماسيين، الذين يفضلون أن يدخلوا في مُناخ ثقافي واجتماعي ومعماري أصيل. واستطاعت هذه المنشأة أن تدخل عالم الإبداع من أبوابه المعاصرة، بمنظور حضاري إسلامي. ولقد استخدمت في هذه المنشأة عناصر معمارية إسلامية كثيرة دون أن يشكل هذا تكراراً ونسخاً.

 

ط.12. إن أبنية كثيرة صممها معماريون من غير المسلمين، كانت ناجحة، وتقوم على أسس سليمة، مما يجعلني أقول أن ثمة مدرسة استشراقية في العمارة الحديثة، لابد أن تكون موضع اهتمامنا ودراستنا في معاهدنا المعمارية، التي تحتاج إلى كثير من المعطيات لتوضيح معالم العمارة الإسلامية في العلم الحديث والتأهيل المعماري الحديث.

 

ط.13. إن مسجد الحسن الثاني في الدار البيضاء هو أحدث عمارة إسلامية أصيلة، إضافة إلى ضخامته التي تفوق مساحة أي مسجد مماثل، ثم إن هذا المسجد أقيم على نشز من الأرض امتدت تحته خصيصاً، لكي يتحدى البحر، فيجثم فوقه شامخاً بمئذنته التي تعلو فوق السحاب والغيوم، مهيمنة على مدينة الدار البيضاء، هذه المدينة الحديثة التي أصبحت تفخر بأروع منشأة إسلامية. إن المساجد المغربية التي بناها المرابطون والموحدون من المغاربة، الذين أسهموا في بناء مجد العمارة الإسلامية، مازالت ذكرياتها ماثلة في صوامع مساجد إشبيلية في الأندلس والكتبية في مراكش وحسان في الرباط. ولقد جاءت الصومعة الجديدة لتكون الرابعة في تاريخ الأوابد المغربية، وإن كانت تفوق مثيلاتها حجماً وارتفاعاً. فلقد قامت على مِساحة 625م2 وبارتفاع 200 متر تقريباً. يمتد هذا الصرح المعماري على مِساحة واسعة مقدارها تسعة هكتارات، وهو مسجد ومدرسة في جهة، ومكتبة  ومُتْحف في جهة أخرى، ضمن وحدة معمارية متماسكة، تجلت فيها جميع سمات الفن المعماري والزخرفي المغربي الذي ما زال مزدهراً حتى اليوم. ومازالت الفنون المغربية منتشرة  وشائعة في المغرب بفضل الصناع المهرة الذين يمارسون الزخرفة بالزليج أي الخزف بأشكال هندسية وكتابات، وبالزخرفة الجصية والخشبية والرخامية. ولقد استوعب هذا الصرح إبداعاتهم التقليدية مع إضافات معاصرة، وبخاصة في الصيغ والتقنيات. وليس هذا الصرح نقلاً حرفياً عن عمارة الصروح القديمة، ولكنه حافظ إلى حد بعيد على تقاليد العمارة المغربية والفنون، وبدا تعبيراً عن نهضة هذه الفنون وتحديها لنماذج العمارة الغربية الأوروبية التي انتشرت في مدينة الدار البيضاء، بحكم صفتها التجارية والسياحية. وقد  لا يكون المكان كافيا” للحديث عن التقنيات الحديثة التي أضيفت إليه، وبخاصة استعمال الليزر للدلالة على القبلة، وإقامة ركائز مضادة للهزات والأمواج، والتحات بفعل المياه، وعن سقف المسجد القابل للانفتاح مما أنجزه مصمم البناء (ميشيل بانصو)، ذلك أن الروائع الزخرفية التي أنجزها آلاف المعلمين المغاربة، هي الأكثر أهمية في هذا المسجد.

 

(1) الخطط التوفيقية، الهيئة العامة للكتاب، علي باشا مبارك، القاهرة، 1964.

 

(1) نذكر من هؤلاء البحاثة، هرز فيلد، وسارة، وماكس، فان برشم وابنته مارغريت، وكريزويل، ومارسيه، وكونل، وسوفاجيه، وأوليغ غرابار، وبابادوبولو، وبوركارت، وريمون، وسيرجانت، وايتنهاوسن، وجورج ميشيل، ومايكل روجرز… .

 

(2) نذكر من البحاثة العرب المعاصرين: حسن فتحي، وصالح لمعي، وعبد الباقي إبراهيم، وثروت عكاشة، وبديع العابد، وعيسى سلمان، وعبد القادر ريحاوي، وسمير صايغ، ومحمد سجلماسي، وسعاد ماهر، وأحمد عيسى، وأوقطامي أصلان أبا.

 

(1) توسعنا في الحديث عن الخزف الدمشقي، في كتابنا المشترك مع بورتر، الخزف الإسلامي، طبع دار الكاتب، القاهرة، 1999م، وبشأن الزخرفة يمكن الرجوع إلى كتابنا، جمالية الزخرفة، طباعة بيروت، مكتبة لبنان، 1998.

 

(1) ويمكن الرجوع إلى كتابنا: معجم مصطلحات الخط العربي والخطاطين، مكتبة لبنان، 1997م.

 

(1) انظر كتاب: المهندس المصري حسن فتحي في ترجمته الفرنسية: Construire avec le peuple.

 

(1) لقد توسعنا في الحديث عن الحداثة، وما بعد الحداثة، في كتابنا بهذا العنوان، طبع القاهرة،1997.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

clip_image001

 

الفصل الثالث
تطوير تدريس فنون العمارة  الإسلامية
 في الجامعات لمواكبة مستجدات المستقبل

 

أ) مراحل المنهج التعليمي المعماري

 

أ.1. القصد من وضع منهج موحد لتدريس فنون العمارة الإسلامية، توحيد الخطوات التعليمية في العالم الإسلامي للوصول إلى عمارة مستقبلية تتوفر فيها الأصالة الإسلامية، وتحافظ على وحدة الهوية المعمارية، في عالم يتطلب حواراً ثقافياً لإغناء القِيَم الإنسانية والحضارية عن طريق الإبداع والفن.

 

وإذا كانت العمارة المستقبلية هي الهدف، فإن دراسة العمارة الإسلامية الأصيلة هي الأساس والمنطلق، وبالمقابل إذا كانت العمارة الأصيلة ثابتة لا يمكن تحريف فهمها، فإن العمارة المستقبلية متحركة، وقابلة لمزيد من التنوع، بحسب تعددية المبدعين في العالم الإسلامي الواسع الأرجاء.

 

أ.2. وندخل إلى عالم العمارة الإسلامية الأصيلة من خلال علم التاريخ وعلم الآثار، إذ لا بد أن تدرس مراحل التاريخ الإسلامي وعصوره، ولابد أن نتعمق في الجانب الحضاري في هذا التاريخ. فالتاريخ يُعنى بعرض العهود والدول والعلاقات السياسية  والاقتصادية فيها، أما تاريخ الحضارة فهو يعنى بتقديم مراحل التقدم الثقافي والعلمي والتقني، ومراحل الكشف عن الفكر والطبيعة والمادة. وبين أيدي الباحثين في هذا العلم، وثائق متراكمة، وآثار مادية قابعة في زوايا المتاحف، يستطيع من خلالها أن يوثق بحثه، وأن يطّلع مباشرة على التطوير الحضاري الذي حققه المسلمون عبر التاريخ. ودراسة التاريخ الحضاري تتطلب التوسع بالمقارنة بين الحضارات المختلفة التي سبقت الحضارة الإسلامية، أو التي عاصرت مراحلها التالية، وأن يوضح دور وتأثير كل حضارة على الأخرى. ولعل من أهم أبحاث المقارنة، دراسة الحضارات والفنون التي كانت زاهرة قبل الإسلام، وبيان مدى تأثيرها على الحضارة  الإسلامية.

 

أ.3. تبقى الدراسة التاريخية والأثرية طريقاً للتعرف على الظواهر المعمارية الإسلامية عَبَْر التاريخ، وهي تسعى إلى استخلاص الأسس والقواعد الجمالية والمعمارية والإنشائية التي ترسم لنا طريق الفن المعماري المستقبلي. ولاشك أن هذه الأسس، وهذه القواعد، لا تكتفي بالبحث والتنقيب الميداني، بل لا بد من دراسة التراث الفكري الذي تناول من قريب أو بعيد البحث في الفكر الجمالي. ومما لاشك فيه، أيضاً، أن هذا الفكر سوف يرافقنا في كل مراحل الإبداع  المستقبلي، لكي يصحح مسارنا في بناء عمارة وفن أكثر التصاقاً بذاتيتنا الثقافية وبخصائصنا الإبداعية.

 

أ.4. المرحلة التالية هي المرحلة التطبيقية التي يتحقق خلالها الفن الحديث والعمارة المعاصرة التي ننشدها في مجتمعاتنا الإسلامية، بعيداً عن التقليد والهجانة، قريباً من الأصول والنظريات التأسيسية.

 

أ.5. وأخيراً يعتمد المنهج التعليمي على قاعدتين أوليتين لابد من استكمالهما، القاعدة الأولى تتعلق بتأريخ العمارة الإسلامية والفنون، والقاعدة الثانية تتعلق بوضع علم الجمال الإسلامي والأسس النظرية للفنون الإسلامية. ولا بد من متابعة البحث التأريخي والتنظيري لتعزيز علمي التاريخ الفني والتنظير الفني، وما قدم حتى الآن لا يُعَدُّ كافياً، ولكننا مازلنا نتابع توضيح معالم الحضارة الإسلامية من خلال أبحاث موضوعية، ومازلنا نمارس حماية تراثنا ونجمع شتات هُويتنا الثقافية التي تأثرت كثيراً بفعل الغزو الثقافي والانحلال الحضاري.

 

ب) العمارة، علم وفن

 

ب.1. كليات العمارة في العالم الإسلامي مازالت حديثة، سبقتها كليات الهندسة وكانت فنون العمارة قسماًً منها، ثم استقلت العمارة عن الهندسة المدنية أو الإنشائية، وأصبحت أحياناً كلية مستقلة. وسواء كانت العمارة مستقلة أو تابعة للهندسة المدنية أو للفنون الجميلة، فإن برامج التدريس فيها لم تراعِ التركيز على العمارة الإسلامية.

 

ومن الواضح أن العمارة هي علم وفن، وكان ارتباط تدريسها بالهندسة المدنية يعني اعتبارها علماً قبل أن تعتبر فناً إبداعياً. والعكس، كان ارتباطها بالفنون الجميلة يعني اعتبارها فناً قبل أن تعتبر علماً، وتفرق بعض المدارس الغربية بين فن العمارة وهندسة العمارة، فيغلب على الأول الطابعَ الفني، ويغلب على الثاني الطابَع العلمي الرياضي.

 

وفي البلاد العربية الإسلامية بقيت الهندسة المعمارية فناً وعلماً بوقت واحد، تدرس فيها أكثر العلوم المحض والتطبيقية، إلى جانب التصميم المعماري، ولكن هذا الاختصاص لم يكن يؤهل المتخرج فيه لممارسة الهندسة الإنشائية مستقلاً عن المهندس المدني، في حين كان المهندس المدني قادراً على الاستقلال بتصميم أي منشأة، بعيداً عن المعماري الذي أصبح يحمل مع ذلك صفة المهندس المعماري.

 

ب.2. ولأن مواد التدريس في كلية العمارة علمية أولاً، كانت قواعدها وقوانينها عالمية مشتركة، وهي تطبق على جميع أنماط فنون العمارة، بما فيها العمارة الإسلامية، ولكن تدريس المواد الفنية مثل تاريخ العمارة وطراز العمارة وتاريخ الحضارات، لم يكن مركزاً على فنون العمارة الإسلامية. بل كانت  هذه الفنون فصلاً من فصول الدراسة الجامعية، بل مازالت مغفلة عند دراسة الطراز المعماري، وعند دراسة علم جمال العمارة وتقنيات العمارة، وعلم الاجتماع، وعلم السيمولوجيا.

 

ب.3. وإذا كان هناك من ينادي بضرورة إنشاء قسم خاص بفنون العمارة الإسلامية في كليات العمارة، فإن المنهج الأجدر بالتطبيق هو التالي:

 

1. أن تدرس كليات العمارة كل ما يتعلق بهذا الاختصاص تاريخاً وطرازاً، على أن يتم التركيز والتوسع في فنون العمارة الإسلامية في فصول خاصة.

 

2 . أن يتاح الاختصاص بفنون العمارة الإسلامية في مرحلة الدراسات العليا.

 

3 . أن تشمل دراسة فنون العمارة الإسلامية في المرحلة الجامعية الأولى أو في مرحلة التخصص العالي، المواد النظرية المتعلقة بفنون العمارة الإسلامية، وهي التالية:

 

1. نظريات العمارة الإسلامية وخصائصها والطرز والمدارس الإسلامية في فن العمارة.

 

2. تاريخ العمارة الإسلامية وأشهر المعماريين المسلمين.

 

3. فلسفة العمارة الإسلامية وجماليتها بحسب الباحثين المعاصرين.

 

4. الفكر الإسلامي والفلسفة الجمالية التي قدمها  المفكرون المسلمون.

 

5. علم الاجتماع الإسلامي.

 

6. تاريخ الحضارة الإسلامية.

 

7. علم الآثار الإسلامية ونتائج الحفريات الأثرية في العالم الإسلامي.

 

أما المواد العملية  والتطبيقية، فهي:

 

1. الدراسة الميدانية للمناطق والمباني الإسلامية.

 

2. الممارسة الفعلية في عمليات الحفر الأثري والترميم والمسح.

 

3. دراسة المواد الإنشائية في العمارة الإسلامية ودورها الديناميكي والوقائي.

 

4. تقديم تصميمات معمارية، وزخرفية داخلية مستمدة من التراث المعماري الإسلامي، وملائمة لظروف التطور الحضاري والاجتماعي والتقني لمواكبة مستجدات المستقبل.

 

5. التدريب على قراءة العمارة الإسلامية التقليدية والحديثة، ونقدها ضمن حلقات البحث المشترك.

 

ب.4. إن إحداث أقسام اختصاصية لفنون العمارة الإسلامية، أو حتى التركيز على هذه الفنون ضمن نطاق الفنون المعمارية العالمية، يتطلب تأهيل أساتذة اختصاصيين أولاً وإغناء المكتبة الجامعية بالمراجع والمصنفات والأطالس المعمارية الإسلامية. ويجب الاعتراف أن التدريس المعماري الإسلامي يفتقر إلى اختصاصيين أكفاء في تاريخ العمارة الإسلامية، وفي الفلسفة الجمالية، وعلم الآثار، ولابد من تأمين الحوافز اللازمة لدفع المختصين من حملة إجازة الماجستير في فنون العمارة الإسلامية، للحصول على الدكتوراه في مجال اختصاصهم، لتأهيلهم للتدريس الجامعي.

 

ب.5. إن افتقار المكتبة الجامعية إلى مصادر ومراجع في مجال فنون العمارة الإسلامية، هو من الأمور والإشكالية التي لابد من تداركها. صحيح أن عدداً من المستشرقين قدم إنتاجاً مقبولاً(1)، في مجال تاريخ العمارة الإسلامية، وأن بعض هذه المؤلفات قد ترجم إلى العربية والفارسية، ولكن أكثر هذه المؤلفات لم تربط المنجزات المعمارية بالهُوية الإسلامية، نظراً لافتقار هؤلاء المستشرقين لمعرفة الفكر الإسلامي وأسس الجمالية الإسلامية. وكان على الباحثين العرب المسلمين أن يسدوا هذا النقص، ومازال الأمر في بدايته.

 

ج) علم الآثار والبحث عن التراث المعماري

 

ج.1. إن علم الآثار الذي اتجه نحو البحث والتنقيب عن التراث المعماري الإسلامي، كان رائداً في تعميق دراسة فن العمارة الإسلامية وفي تحليل خصائصه، سواء من خلال الآثار المدفونة تحت الأرض أو من الأطلال والمنشآت المماثلة التي ما زال بعضها مشغولاًً بوظائفه الأساسية، مثل الجوامع الكبرى في القدس ودمشق والقاهرة والقيروان وفاس، أو التي رممت وأصبحت مزاراً علمياً وسياحياًً يحفظ الذاكرة المعمارية، كجامع قرطبة ومسجد الشاه في أصفهان والقصر العباسي في بغداد.

 

ج.2. استفاد الباحثون من النقوش والكتابات المثبتة على المباني الإسلامية في تحديد تاريخ هذه المباني، وتعيين مَنْشَئها والسلطان الذي أمر ببنائها. كما استفادوا من التعرف على شروط المبنى المعماري من خلال الحجج الدقيقة والحبوس.

 

ج.3. لقد نشطت البعثات الأثرية في التنقيب عن التراث المعماري الإسلامي، وبعد أن كانت هذه البعثات أجنبية فقط أصبحت وطنية أو مشتركة. وقد أصبح حصاد عمليات التنقيب ضخماً سد نقصاً كبيراً في معرفتنا بتراثنا المعماري الإسلامي. ونشير بصورة خاصة إلى عمليات الكشف عن آثار قصر الزهراء في قرطبة التي تعيد إلى الذاكرة مشاهد رائعة معمارية، هي من أبرز المنشآت المعمارية الإسلامية في أوروبا والعالم الإسلامي، وكانت قبل الترميم مغيبة.

 

ج.4. ليس القصد من تسليط الأضواء على التراث المعماري الإسلامي زيادة مِساحات المتاحف، كما هو الأمر في متحف الدولة في برلين، الذي استوعب آثار معمارية إسلامية هامة، هي واجهة قصر المشتى الأُموي. ولكن الهدف هو إنعاش الذاكرة  أما علم الآثار فهو يبحث ميدانياً في آثار العمارة الإسلامية فوق الأرض وتحتها، ولكي يحدد تاريخها وعصرها ونمط  العمارة فيها والوظائف التي استوعبتها، ويخضع التنقيب الأثري المعماري لقواعد عالمية تتحكم في أسلوب التنقيب، من حيث دراسة الطبقات والسويات بالحفر ضمن مربعات مرقمة تجري فيها الدراسة الميدانية، ويتابع حلقاتها مربعاًً مربعاً. ويساعد العالم المنقب مهندس أثري وعالم لغوي، وعالم نباتي، إذ أن دراسة المواد العضوية  مخبرياً عن طريق الفحم 14 تساعد في تحديد المدة الزمنية، ذلك أن الفحم 14، هو مادة عضوية مشعة، تفقد إشعاعاتها خلال مدة 5600 سنة ودراسة حجم خسارة هذه الإشعاعات يحدد عمر هذه المادة العضوية كالنبات والعظم، والطين والخشب، والتي كانت أساساً في العمارة القديمة.

 

ج.5. والدراسة الآثارية تعتمد على ثقافة فنية عالية، وعلى معرفة في تواريخ القطع المكتشفة سواء كانت زجاجية أو خزفية أو معدنية أو خشبية، ومعرفة تاريخ الخط العربي وغيره، وتطور أساليب الخط. ويكفي أن ينظر العالم إلى كسرة خزفية أو آجريه لكي يعرف الشكل الكامل لهذه الآنية أو تلك، وبالتالي لكي يحدد تاريخها وتبعيتها. وتبقى الرموز والإشارات أهم دلالة على هوية القطع الأثرية.

 

ويجب أن ننوه بجهود أقسام علم الآثار في الجامعات، فهي على حداثتها تخلق جيلاً من الأثريين المنقبين، قادر على سد الفراغ الكبير في عالم التنقيب الأثري. ولكن لابد أن نخصص في كليات الهندسة الإنشائية والمعمارية فصولاً لدراسة عمليات مساعدة للتنقيب الأثري، لتأهيل عدد من المهندسين على الانضمام إلى مجموعات التنقيب.

 

ج.6. إن مهمة علم الآثار هي تحقيق المعرفة التاريخية والعلمية الواقعية، وإفساح المجال أمام عمليات الحماية والصيانة والترميم لممارسة عملها حسب مقتضيات ونتائج التنقيب الأثري، ولابد من التقيد بحدود الواقع عند الترميم. وكل زيادة قد تشوه الحقيقة المعمارية وتشوه التاريخ. ولابد من استعمال المواد ذاتها أثناء الترميم، والتقيد الكامل بالشكل المعماري والطريقة الإنشائية التي كانت متبعة، في جوانبها التاريخية، وتوثيق المعرفة التراثية المعمارية، لتحقيق استمرارية الأصالة في العمارة الحديثة الموعودة، بعد انقطاع طويل عن الأصول الفنية التقليدية.

 

د) البحث عن الجمالية الإسلامية في العمارة والفن

 

د.1. لقد قامت جهود في البحث عن الجمالية الإسلامية في العمارة والفن قدمها (أوليغ غرابار)(1)، والكسندر بابا دوبولو(2)، ولكن هذه الدراسات كانت تعبر عن رؤية ذاتية تم فيها اختيار مذهب أو موقف إسلامي محدد، واعتمدت على مصادر إسلامية غير موثوقة لتبرير تحليل للفن والعمارة الإسلامية، مازال متحيزًا.

 

د.2. وتناول بعض المفكرين العرب قضايا الفكر الإسلامي، وأحسنوا في تسليط الضوء على الأسس الفكرية للإسلام، بعيداً عن قضايا الفقه والمذهب، ولكن قلة من الباحثين المسلمين والعرب، تناول مسائل الجمالية الإسلامية. وما نسعى إليه هو إنشاء فلسفة جمالية إسلامية، تأخذ مصادرها عن الفكر الإسلامي أولاً، وعن الفلسفة الإسلامية  وعن المفكرين المسلمين. ولقد كان اهتمامنا  قد ابتدأ بتقديم فلسفة أبي حيان التوحيدي الجمالية(3)، مأخوذة من كتبه التي بقيت بعد حرق أكثرها، وعرضناها بأسلوب علم الجمال وبمصطلحاته، فكان بين أيدي القراء مصدر نموذجي  عن مفهوم الفن الإسلامي، من خلال فلسفة واحد من أعلام الفكر والفن في العالم العربي الإسلامي. ومازال المجال واسعاً لمتابعة دراسة مفهوم الفن الإسلامي عند الجاحظ وإخوان الصفا وابن خلدون والفارابي وغيرهم من الأعلام.

 

د.3. إن اختلاف المفهوم الجمالي الإسلامي عن غيره، وبخاصة عن المفهوم الجمالي الغربي الذي أرسى أسسه فلاسفة، بدءًا بأفلاطون وكانط  وهيغل، إلى أن ظهر علماً مستقلاً عند (بومجارتن)، يجعلنا نؤكد على ضرورة دراسة علم الجمال الإسلامي مستقلاً أو مقارناً مع علم الجمال الغربي، وهذا يعني أن دراسة فنون العمارة الإسلامية، لا تلغي دراسة فنون العمارة في العالم، فنحن لا نستطيع توضيح معالم فنوننا إلا بالمقارنة مع فنون الآخرين. كالفن الهندي والمكسيكي والفن الكلاسي والفن المسيحي على اختلاف مدارسه وفنون عصر النهضة في أوروبا.

 

د.4. كذلك لابد من دراسة الفن الإسلامي بدءًا من جذوره الكامنة في فنون ما قبل الإسلام، كالفن المصري والفن الفارسي والفن الرافدي والفن اليمني والفن الفينيقي.

 

لقد تمادى بعض المؤرخين في فصل الحضارة الإسلامية الأولى عن الحضارات العربية السابقة للإسلام، كالحضارة الرافدية والعمورية والفينيقية واليمنية والنبطية. والحق أن هذه الحضارات هي أصول الحضارات التي ظهرت في المِنْطَقة التي دانت بالإسلام، في العراق والشام واليمن والجزيرة، كالحضارة الفارسية والبيزنطية التي كانت جسر انتقال من الحضارات القديمة إلى الحضارة الإسلامية.

 

لقد أخذت الحضارة الفارسية، عمارة  وفناً، نسغها عن الحضارة الرافدية، بل كانت امتداداً لها، وعندما تلاحمت هذه الحضارة مع عرب البادية الذين شكلوا حضارة الحضر وحضارة الحِيرة أيام العرب المناذرة، ومع عرب تدمر أيام أسرة خيران وعلى رأسها زنوبيا، كانت بداية ظهور السِّمات العربية في الفن والعمارة على الرغم من السيطرة السياسية والثقافية الإغريقية، ثم الرومانية، وما زالت آثار الحضر وتدمر ووصف قصري الخورنق والسدير في الحيرة، تشهد على سِماتٍ محلية تتميزعن الطابع الكلاسي.

 

د.5. وفي جميع العصور الساسانية والكلاسية والبيزنطية، فإن صانع الفن  والعمارة، كان ذلك المعلم المعمار المواطن، والذي ترك هُويته مرغماً لحساب السلطة الغريبة الحاكمة، ويتحدث المؤرخون عن دور المعماريين السوريين في بناء أوابد ضخمة ما زال أشهرها قائماً في روما ذاتها، مثل حمامات (كاراكالا) و(عمود تراجان) و(قوس نصر سبتيم سيفير)، و(جسر دبروجا) على نهر الدانوب. ويزهو اسم المعمار الدمشقي (أبو للدور) كواحد من عباقرة العمارة في العالم الروماني.

 

د.6. ويتحدث المؤرخون، أيضاً، عن المعماريين السوريين الذين أنجزوا كنيسة (أيا صوفيا) حسب المفاهيم  المعمارية السورية التي انتشرت في العصر البيزنطي وورثها العثمانيون المسلمون، وكان المعمار سنان في تركيا هو >دافنشي المسلمين< ينطوي على أعظم عبقرية معمارية تجسدت في أكثر من مائة آبدة إسلامية، لعل أبرزها جامع السليمية في (أدرنة) بتركيا. وهكذا يستمد العرب المسلمون من تراثهم السابق للإسلام عناصر معمارية هامة أغنت العمارة الإسلامية وربطتها بجذورها القديمة. ولعل ظهور المئذنة المربعة والملوية التي اتخذت أصولها من أبراج الزيقورات الرافدية، مثالاً ودليلاً على هذا الارتباط البعيد المدى بالجذور الأصيلة.

 

هـ) النظريات المعمارية الإسلامية

 

هـ.1. تبقى دراسة نظريات العمارة الإسلامية من أهم المواد الجامعية  والاختصاصية، فنحن لا نستطيع استيعاب خصائص هذه العمارة، إلا بعد دراسة النظريات التي قامت عليها عناصر هذه العمارة، وإلى الرموز العقائدية التي دلت عليها. فإلى جانب علم الرياضيات المحض الذي يقوم بتحليل بنِيه العناصر المعمارية، من قوس وقبة  وأعمدة، إلى المحراب والمئذنة والصيوان، ثمة رياضيات رمزية سيماتية تتصل مباشرة بالعقيدة الإسلامية، تجعلنا نفهم أسباب قيام العناصر المعمارية الإسلامية، مما يساعدنا في تحديد هُوية العمارة والفن الإسلامي، وفي توضيح المعاني السامية التي استمدها المعمار من مبادئ الدين الإسلامي.

 

هـ.2. يهدف تعليم تاريخ العمارة الإسلامية وفلسفتها ونظرياتها إلى بناء المعمار الإسلامي المستقبلي؛ الذي أنهكته دراسة العمارة والفنون في العالم، بعيداً عن عمارته وفنونه التي كانت من أروع إفرازات حضارته. والقصد التعليمي الأول هو أن يصبح الطالب المسلم العربي أو غير العربي  قادرًا على قراءة العمارة الإسلامية، وعلى تحليلها علمياً وجمالياً، وهي مرحلة بناء التذوق والفهم. أما مرحلة الإبداع المنتمي، فإن مشوارها طويل يتجاوز حدود الدراسة، وليس من السهل بناء معمار إسلامي يجهل أولايؤمن بانتمائه الإسلامي، أو انتمائه إلى الفكر الإسلامي وإلى التراث الإسلامي، ولا يأتي الانتماء إلا عن طريق المعرفة، ولذلك كانت الدراسة الجامعية وسيلة لتقوية الانتماء وللتحضير لمرحلة الإبداع الملتزم.

 

هـ.3. ويبقى خَلْق عمارة مستقبلية أصيلة، الطريق الصحيح والمباشر لترسيخ السِّمة الحضارية للدين الإسلامي، ولابد من إنقاذ الحضارة الإسلامية من براثن الجهل والجمود الفكري، بمباشرة نهضة ثقافية، تبدأ باسترداد هُوية المدينة الإسلامية. وتبقى العمارة الإسلامية وعاء الحضارة وعنوانها، وهي سِمة التقدم الاجتماعي والاقتصادي في المجتمع الإسلامي السَّوي.

 

و) التصميم المعماري الإسلامي

 

و.1. تُعَدُّ مادة التصميم المعماري الإسلامي المجال التجريبي والتطبيقي الأكثر أهمية، ولا بد من الإكثار من التمارين والوظائف الأسبوعية المتعلقة بالتصميم، على أن يرافق تحكيم هذه التصاميم شرح تفصيلي يساعد الطالب على تصحيح أخطائه، وتقويم ارتباطه بالأسس الجمالية والنظرية الخاصة بفنون العمارة الإسلامية. وتتضمن دراسة التصاميم نقاطاً أساسية تبقى العمود الفِقَري لبناء تصميم صحيح، وأهم هذه النقاط هي :

 

1. التقيد بالفكر الجمالي الإسلامي، المستمد من الشريعة، ومن أفكار الفلاسفة والباحثين القدماء والمحدثين، والتقيد بالآية الكريمة: {أفَمَنْ أسَّس بنيانهُ على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرفٍ هارٍ ٍفانهار بهِ في نارِ جهنَّم واللهُ لا يهدي القومَ الظالمين}.(سورة التوبة، الآية: 109).

 

2. التقيد بالوظيفة سواء كانت هذه الوظيفة دينية أو مدنية، ولقد عرفت العمارة الإسلامية بتوافقها وتطابقها مع الوظيفة والمنفعة المبتغاة من المنشأة.

 

3. تحقيق الأمن والسلامة والاستقرار، وهي شروط عامة، ولكن مراعاة العادات والتقاليد الإسلامية والبيئة المُناخية  والاجتماعية؛ تبقى من الشروط الخاصة بالعمارة الإسلامية.

 

4. دراسة اقتصادية التصميم كي تتوافق مع الوضع الاقتصادي ومع ميزانية المشروع.

 

5. مراعاة النواحي الصحية، والاستفادة من أنظمة التهوية التقليدية “البادغير” أي الملاقِف الهوائية الرطبة. وتأمين العزل الحراري، وتوفير الطاقة الكهربائية، والإفادة من الطاقة الشمسية، ومن المواد العازلة التقليدية، وتحاشي الأسمنت إلا في الحالات الضرورية بسبب ناقليته للحرارة والبرودة  الخارجية على عكس الطين والخشب.

 

6. تطبيق التقنيات الحديثة بما لا يؤثر على الطابع الأصيل للعمارة، وبما لا يزيد من الكلفة، ويعقّد عمليات الصيانة والتشغيل.

 

7. تحقيق التناسق مع البيئة العمرانية، من أبنية وفراغات وحدائق وشوارع عادية أو جسرية.

 

8. دراسة  العمارة الداخلية  ضمن حدود المفهوم الجمالي التقليدي، مع إفساح المجال واسعاً للإبداع والتجديد، واستعمال المواد المستحدثة والمساعدة لتحقيق العمارة الداخلية الحديثة، بما يتناسب مع الحياة العصرية، ضمن حدود التهوية التراثية.

 

9. العودة ما أمكن إلى مبدإ الجَوَّانية في العمارة الإسلامية، والاهتمام بالفِناء الداخلي والإيوان والطزرات والعتبات المساعدة في حماية المُناخ الداخلي.

 

ز) الكشف عن المواهب المُبدعة

 

ز.1. ليس من شك أن جميع المواد الدراسية النظرية والعملية، تخدم الطالب في مباشرة تصميماته المعمارية حسب المعطيات الفكرية والاقتصادية والاجتماعية  والبيئية. وإذا كان على الجامعة أن تهيئ الطالب لممارسة تصميماته وفق الشروط الأكاديمية أولاً، فإن قضية الكشف عن المواهب المبدعة تبقى الوسيلة الأجدى لفتح آفاق جديدة لعمارة المستقبل ، فعمارة المستقبل ليست نسخاً عن عمارة الماضي أو تقليداً لها، وليس التراث نموذجاً للتقليد والتكرار، بل هو حافظة الهوية، التي إذا ما تمكنا من الانتماء إليها بعد الكشف عن أسرارها، كانت الحرية الإبداعية هي الطريق الصحيح لإحياء التراث المعماري، ولإغنائه بإبداعات فردية لا حصر لها. لقد انتهى عهد المذاهب المعمارية، وأصبحت الشخصانية سِمة الفن الحديث والعمارة الحديثة، لذلك لابد من تهيئة معمار المستقبل لمباشرة أسلوب معماري متغير بطرائقه وتصميماته، ولكنه ثابت بانتمائه وهُويته. إن التعددية الإبداعية هي الهدف البعيد الذي يجب أن ترسم له مناهج التعليم المعماري الجامعي، على أن لا تنقطع هذه الإبداعية عن جذورها وأصولها، وإلا فإن مصيرها العدمي سيكون حتمياً، وهذا ما تم في عمارة (الحداثة) التي انقطعت عن الجذور وعن الفكر المعماري، وضاعت في متاهات التشرد الإبداعي، وهاهي تبحث اليوم عبثاً عن طريق العودة إلى الجذور.

 

ح) المعاجم ومصطلحات العمارة الإسلامية

 

ح.1. الفن والعمارة لغة الإشارة والرمز، لغة نقرأ من خلالها التاريخ والحضارة والهُوية القومية، ونحدد من خلالها المستوى الإبداعي الأصيل، ولكي تكون هذه اللغة مقروءة من أبنائها أولاً، كان لابد من توحيد مصطلحاتها. وفي نطاق اللغة العربية، وهي لغة الحضارة الإسلامية والدين الإسلامي، مازلنا نتخبط باستعمال مصطلحات متضاربة لا تساعدنا في توحيد قراءة الفن المعماري، وفي بناء التصميم المعماري.

 

ح.2 . لقد تكونت المصطلحات المعمارية التي أفرزها معلمو العمارة في كل قطر إسلامي، دون أن يكون بمقدورنا اختيار المصطلح المشترك الذي يساعد في تكوين خطاب واضح مشترك بين  المعماريين وفي حلقات التدريس. ولقد قامت جهود بعض المستشرقين لجمع بعض هذه المصطلحات وتنسيقها ومقارنتها وتوضيح مدلولها(1)، ثم قامت جهود أخرى لترجمة المصطلح المعماري الفرنسي والإنكليزي إلى اللغة العربية(2).

 

ح.3. كان القصد توحيد المصطلح الجامعي والتعليمي. ولكن الهُوة ما زالت قائمة بين المصطلحات المحلية الدارجة ذاتها، فلم يُوَحَّد الخطاب بين المعمار الشامي والمعمار المغربي، ومع أن القاسم المشترك بين هذه المصطلحات هو المصطلح العربي الفصيح، فإن دراسة مقارنة وموحدة  لهذه المصطلحات لم تتحقق حتى الآن، وكان لابد لمراكز البحث الجامعي أو لمجامع اللغة أن تقوم بهذا العمل  المؤسس.

 

ط) المهنة والفنون المعمارية الإسلامية

 

ط.1. إن الهدف من دراسة فنون العمارة الإسلامية، والتخصص فيها، ممارسة مهنة التصميم والتنفيذ وفق الأسس والنظريات والتقنيات التي تشكل خصائص وتقاليد العمارة الإسلامية. ويجب الاعتراف أن الاختصاص المعماري حديث في نطاق الدراسات الجامعية الإسلامية، ناهيك عن الاختصاص بالعمارة الإسلامية الذي مازال مفقوداً في نطاق التعليم المعماري الجامعي، وحتى عهد قريب كان الاختصاص بيد المعلم المعمار، ولعله كان أمياً لا يستخدم في عمارته إلا الوسائل البدائية، والمواد الإنشائية المتوفرة. والحق إن هذا المعمار قد أنجز روائع المنشآت التي تشهد على عبقريته ومهارته التي لم يستطع المعمار المثقف مجاراته بها حتى الآن. وفي معاهد الفنون التطبيقية والتدريبية، مازال التدريس يعتمد على أولئك المعلمين، ولقد وصل المعلم المعمار قمة نجاحه في العصر الحديث عندما قام بإنشاء الأوابد الضخمة، مثل ضريح الملك محمد الخامس في الرباط وجامع الملك الحسن الثاني في الدار البيضاء.

 

ومازال الترميم الأثرى يعتمد على أولئك المعلمين الذين يتناقصون مع الأسف دون أن تقوم السلطات بتشجيع أجيال جديدة على متابعة أعمالهم.

 

على أن معلمي المعمار في جميع البلاد الإسلامية من أصفهان إلى بغداد ودمشق وإلى القاهرة وتونس وفاس وقرطبة، أيضاً، هم الذين يتولَّون بنجاح كامل عمليات ترميم المباني الإسلامية.

 

ط.2. إن عيب التدريب الجامعي عامة، وتدريس فنون العمارة الإسلامية بخاصة، هو غياب الجانب التطبيقي والتدريبي والاكتفاء بالجانب النظري، ولذلك فإن الاختصاص يبقى ناقصاً يحتاج إلى دربة طويلة، ومن الصعب تأهيل معماري إسلامي عن طريق الدراسة النظرية المجردة.

 

ط.3. لقد كان تأهيل المعماريين يتم داخل الورشات. وكان المعماري ينتقل في تجاربه وتدريبه من أبسط المراحل، مثل تحضير الطين وتقطيع الحجر إلى التصميم والبناء، تحت إشراف معلمين مهرة يسددون خطواته ويدربونه على تنفيذ جميع المراحل المعمارية والإنشائية. واستمرت صناعة البناء وفنون الزخرفة والعمارة زاهرة بفضل مِهاراتهم ومكتسباتهم العملية. ومن الملاحظ أن المعماريين الاختصاصيين الذين سبق لهم ممارسة مهنة العمارة، أو جزءاً ما من مهن الإنشاء هم أكثر نجاحاً في تصميم وتنفيذ مشاريعهم منسجمة مع الطابع المعماري التقليدي، ومتقيدة بالخصائص المعمارية الإسلامية.

 

ط.4. ليست مهمة التدريس الجامعي مجرد تأهيل اختصاصيين لممارسة التصميم المعماري الإسلامي، بل إنها لتأهيل الناس جميعاً لفهم أسرار العمارة الإسلامية وتذوقها، ومن ثم حماية تراثها والعمل على متابعة تقاليدها في عمارتهم الحديثة، مما يحقق الهدف لتأمين سوق استهلاكية لفعاليات المعماريين.

 

ط.5. ومن المؤسف أن انتقال سكان المدينة الإسلامية من المدينة القديمة إلى المدينة الحديثة، منذ الخمسينات من هذا القرن، أورث إهمالاً للمدينة القديمة، بل ازدراء أحياناً، وبالتالي عزوفاً عن متابعة العمارة الإسلامية في منشآتهم الحديثة. لذلك كان من أهم أهداف التدريس توعية المواطن بميزات العمارة الإسلامية لتغيير مواقفه منها، وليصبح أكثر اعتزازًا بتراثه وأكثر إقبالاً على إنشاء عمارة حديثة أصيلة. ومما لاشك فيه أن إعداد المعمار الإسلامي المنتج يجب أن يرافق إعداد المستفيد القانع والمقبل على هذه العمارة بقناعة ورغبة، ولكن هذا الاقتناع لايتم بمجرد إثارة العواطف القومية والتراثية، بل لابد من تعميم الثقافة المعمارية الإسلامية في المدارس، وعرض روائعها وخصائصها وميزاتها بوسائط الإعلام المختلفة، وتنظيم اللقاءات والمؤتمرات والمعارض التي تعّرف بأهمية هذه العمارة على أوسع نطاق شعبي ممكن.

 

(1) نذكر من هذا كتاباً صدر عن مهرجان العالم الإسلامي الذي نظم في لندن في السبعينيات من القرن 20، لمؤلفه بيوركهارت، Burckhartdt: Art of Islam

 

(1) O. Grabar: the formation of Islamic Art Yale.

 

(2) A. Papadopoulo : LصIslam et lصart musulman- Mezenod.

 

(3) جمعنا في كتابنا ـ الفكر الجمالي عند التوحيدي، خلاصة مما أورده في كتبه مايتعلق بالجمالية الإسلامية، الكتاب طبع المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 1997.

 

انظر: بيروت ـ ليون

 

(1) O. Aurenche : Dictonnaire de lصarchitecture du proche Orient,1976.

 

(2) انظر المعاجم التي قدمناها، وهي:

 

ـ معجم المصطلحات ثلاثي اللغات ـ طبع مجمع اللغة العربية بدمشق، 1972.

 

ـ معجم العمارة والفنون، انكليزي/ عربي، طبع مكتبة لبنان، بيروت 1995.

 

ـ وانظر يحي الشهابي: معجم المصطلحات الأثرية، طبع مجمع اللغة العربية بدمشق، 1967.

 

 

 

 

 

 

 

 


clip_image001

 

الفصل الرابع
التأكيد على المواصفات الحضارية الدينية
 والقيم السامية في الفنون الإسلامية

 

أ) الدين والحضارة

 

أ.1.  ولقد قام الإسلام على الإيمان بالله رب العالمين، وعلى وحدانيته، فهو واحد لا شريك له، {لم يلد ولم يولد* ولم يكن له كفواً أحد}،(سورة الإخلاص، الآيتان:4-3). وهو إله لا شبيه له ولا مثال {ليس كمثله شئ}، (سورة الشورى، الآية:11). ثم هو أزلي خالد {هو الأول والآخِر}، (سورة الحديد، الآية:3)، وهو {عليمٌ قدير}،(سورة النحل، الآية: 70) {وإِنَّه يعلم الجهرَ وما يخفى}.(سورة الأعلى، الآية:7) والله هو فوق جميع الكائنات، وفوق الأشكال، وفوق كل قوة، وكل حجم وكل حد، {وله المثل الأعلى} (سورة الروم، الآية: 30)، وهوخالق الكون كله.

 

أ.2. لقد صور القرآن معاني اللَّه سبحانه وتعالى: في آية بسورة  النور (3)، {اللهُ نورُ السمواتِ والأرضِ}، فهو النور الأسنى، الذي تكونت منه السماء والأرض، {مَثَلُ نورهِ كمشكاةٍ فيها مصباح المصباحُ في زجاجةٍ والزجاجة كأنها كوكب درّي}، وهي صورة أدبية لتوضح المعنى الإلهي، {يوقَدُ من شجرةٍ مباركةٍ زيتونةٍ لا شرقيةٍ ولا غربية}، أي أن وقود هذا النور يأتي من لازمانَ ولامكانَ محددين، {يكاد زيتُها يضيئ ولو لم تَمْسَسْهُ نار}، هو نور وليس من نار {نورٌ على نورٍ}، أي أنه نور مطلق، {يهدي اللهُ لنورهِ مَنْ يشاءُ}، والله يهدي الصالحين للكشف عن سره. ويتمثل الإيمان بالله، في السعي إلى اكتشاف سر ملكوت اللَّه، أي سر الوجود الأَزلي، ولقد زود اللَّه الإنسان بالعلم والعقل، لكي يكتشف سر الوجود، وهو هدف حضاري، فالحضارة اكتشاف مستمر لأسرار الكون، وعلاقة الإنسان بالكون علاقة معرفة، أما علاقة الإنسان يربه فهي علاقة ولاء وعبادة، {إنما يخشى اللَّهَ من عبادهِ العلماءُ}، ( سورة فاطر، الآية: 28)، ولقد كرم اللَّه أولي العلم وحضَّهم على الكشف {شهد اللهُ أنه لا إله إلا هو والملائكةُ وأولو العلم قائماً بالقِسْط}، (سورة آل عمران، الآية: 18).

 

أ.3. إن المعنى المثالي للَّه سبحانه يجعله موئلاً للمؤمنين يسعون إلى معرفته من خلال مخلوقاته، ومن خلال تجلياته في الوجود والكون، ويتحدد إيمان المؤمن بقدر التجائه إلى الله للبحث في سر الوجود {وما عندَ اللهِ خيرٌ وأبقى}. (سورة القصص،الآية :60) ، هكذا يتجلى الدين الإسلامي عقيدة توحيدية حضارية لازمة ولا غفران لمن لا يؤمن بها، {إن الله لا يغفر أن ُيشرك به ويغفرُ ما دون ذلك لمن يشاء}، (سورة النساء، الآية : 48).

 

ب) مسألة منع التشبيه في الفن

 

ب.1. ثمة مسائل فكرية تناولها بعض الفقهاء دونما تعمق أو تفنيد كاف، منها مسألة منع التشبيه في التصوير، هذه المسألة التي أعيد طرحها منذ الثلاثينيات في هذا القرن على لسان المستشرقين، أولاً: ثم تناولها الفقهاء معتمدين على مواقف بعض المحدثين من أمثال النووي، الذين أكدوا على إطلاق المنع في الحديث الشريف >إن أشد الناس عذاباً، يوم القيامة المصورون الذين يضاهون بخلق الله<، وثمة أحاديث أخرى لا تخرج عن هذه الصورة، دون إيضاح أسباب المنع، عدا ما كان قد عرضه النحاة من أمثال أبي علي الفارسي، عندما قالوا استناداً إلى قواعد النحو، إن أسباب المنع هو عدم تصوير اللَّه تعالى صورة الآحاد أو الأجساد، لكي لا نقع في شِرْكِ الصنمية والوثنية، وهو كفر لا جدل فيه، أو أن سبب المنع هو الحيلولة دون ادعاء الرسام أنه قادر على تصوير المخلوقات متجاوزاً حدود مقدرة الواحد الخالق المصور سبحانه. وفي جميع كتب أبي حيان التوحيدي وبخاصة (الإشارات الإلهية)، و(الإمتاع والمؤانسة)، و(اُلمقابسات)؛ لا نرى في حديثه عن الصورة بجميع أشكالها، الإلهية والطبيعية والبشرية، أي تأسيس على المنع، أو على آراء الائمة والفقهاء، بل هو يباشر موقفه باتجاه العقيدة التوحيدية، وما تمليه عليه من أحكام إلهية تتلخص في الآية الكريمة {ليس كمثله شئ}.

 

ب.2. ويبني أبوحيان حديثه عن الصورة الإلهية، على المبدإ التوحيدي الذي يميز الإسلام(1)، فهو يصف الخالق، >إن الكل باد منه وقائم به وموجود له وصائر إليه<، ولهذا فإنه ليس من الممكن تصوير اللَّه صورة الأجساد، ولا يمكن تشبيهه بأي صورة كانت، لأنه المطلق، والمطلق لايمكن أن يصبح نسبياً، وهي آفة التصوير الغربي الذي صور الخالق على سقف كنيسة السكستين شيخاً يخلق الكون، ويخلق الإنسان، ولم تكن صورة هذا الشيخ غريبة عن صورة إله الإغريق (زفس) رب الأرباب في مجمع الآلهة الوثنية.

 

ولذلك؛ فإن التوحيدي عندما قال: >إن جميع الأسماء الحسنى تضيق على الله وجميع الرسوم الدلالية عاجزة عن تصوير الله<، لأن الانسان يبقى عاجزاً عن إدراك سِماتِ الرب، ولكنه بعقله وحدسه قادر على الإيمان بقوته الخالقة من خلال مخلوقاته وأسرارها، ومن خلال الكون وخفاياه.

 

والله كما في القرآن الكريم: {هو الأولُ والآخِرُ والظاهرُ والباطنُ}،(سورة الحديد، الآية : 3 ). ولهذا يقول التوحيدي، إن اللَّه تعالى لما كان محجباً عن  الأبصار، ظهرت آثاره في صفحات العالم وأجزائه وحواشيه وأثنائه.

 

ب.3. ويتفق أبو حيان مع بعض مفسري الحديث الشريف، من أن المنع قاصر على تصوير اللَّه، فيقول تأسيساً على معنى الوحدانية والإيمان بها، إن تصوير اللَّه يتم بعيداً عن المكان والكيف قريباًً من الدهر والزمان. أما من أشار إلى الذات فقط بعقله البريء السليم، من غير تورية باسم ولا تحلية برسم مخلصاً مقدساً، فقد وفى حق التوحيد بقدر طاقته البشرية، لأنه أثبت الآنية (الزمان) ونفى الأينية (المكان) والكيفية (الشكل)، وعلاه عن كل فكر وروية، (المنطق الصوري).

 

وهكذا فإن أبا حيان التوحيدي يضع شروطاً  للتصوير تلتزم بمعنى التوحيد الذي ينفي الصفات البشرية عن الله، فيقول: >فلما جلَّ عن هذه الصفات، بالتحقيق في الاختبار، وُصِفَ بها بالاستعارة على الاضطرار، لأنه لا بد لنا من أن نذكره ونصفه، وندعوه، ونعبده، ونرجوه، ونخافه، ونعرفه<.

 

ولكن كيف نحقق الصورة الإلهية؟. يقول التوحيدي: >هي أبعد منا في التحصيل إلا بمعونة الله تعالى، فلا طريق إلى وصفها وتحديدها إلا على التقريب.. إلا أنها مع ذلك ترسم بأن يقال: هي التي تجلت في الوحدة وثبتت بالدوام ودامت بالوجود…<

 

ب.4. ولأول مرة بعد ألف عام نكتشف مع التوحيدي أسباب ظهور الرقش العربي، الهندسي والنباتي، بمنطق توحيدي، وليس بمنطق المنع الذي سار عليه المستشرقون، من أن الرقش العربي كان زخرفة تعاطاها المزوقون والرقاشون بديلاً للتصوير الممنوع، دون التمييز بين الصورة الإلهية والصورة التشبيهية التي تحدث أبو حيان عن أشكالها ومراميها، وقدم لها المبررات الكاملة بعيداً جداً عن منطق المنع، الذي لم يكن مطروحاً قضيَّةً أساساً من قضايا علم الجمال الإسلامي، كما هو الأمر اليوم، وموقفه هذا يضع حدّاًً لزيادة أوار الجدل في قضية المنع، طالما أنها ليست مسألة مبدئية إلا من حيث هي أمر لمنع تصوير الله أو لمضاهاته في عملية التصوير والخلق.

 

وهكذا، فإن الرقش العربي هو تصوير ديني إسلامي يقوم على مبدإ التوحيد، أما التصوير التشبيهي، فهو تصوير مدني يقوم على وظائف ثقافية لا يضع الشرع دونها مانعاً  ما. فالتصوير التشبيهي مباح عندما يكون الغرض منه تذكير الحواس بأشياء سبق أن أدركتها، أو لتصوير أشياء وكائنات موهومة ليس لها ظل في الواقع أوالذهن، أو لتصوير الأمور العقلانية المحض، كي تصبح مألوفة واضحة.

 

ج) البحث عن التقوى والإبداع في الفن

 

ج.1. قام الفن الاسلامي على أساس مثالي، يتجلى ذلك في العمارة الدينية المتسامية الممثلة في المئذنة الشاخصة إلى الملإ الأعلى، والقبة التي تمثل العناية الإلهية، وهدف الفنان المسلم التقرب من المطلق، وفي ذلك معنى التقوى والعبادة، وهذا ما يفسر الرقش العربي الهندسي والنباتي، حيث النبات  تعبير عن الجنة، ممثلة بالنخل والرمان والتين والأعشاب والسنابل والزهور،{ودانيةً عليهم ظلالُها وذُللت قطوفُها تذليلاً}، (سورة الإنسان، الآية: 14).

 

ويستطيع الفنان تصوير الوجوه حاذفاً التفاصيل، مما يسمى (الطرح) مؤكداً “عجز الإنسان عن خلق الإنسان من ماءٍ مهين، وعن نفخ الروح في الصورة، فليس هدف الفنان الخلق، بل الإبداع عن طريق الانتماء إلى اللَّه، وليس عن طريق تصوير اللَّه وتشبيهه: >إن أشد الناس عذاباً، يوم القيامة المصورون الذين يشبهون بخلق الله<، الحديث الشريف.

 

ج.2. ولذلك، فإن المصور المسلم يبتعد عن التشبيه فيحور الصورة ما استطاع، حتى يصل بها إلى الشكل السَّديمي، أي المرحلة الأولى من الخلق حسب الآية الكريمة: {ذلك عالمُ الغيبِ والشَّهادةِ العزيزُ الرحيم* الذي أحسنَ كلَّ شئ خلَقهُ وبدأ خلقَ الإنسانِ من طين  *ثم جعلَ نسله ُمن سلالةٍ من ماءٍ مهين* ثم سوَّاه ونفخ فيهِ من روحِهِ}، (سورة السجدة، الآيات: 8-5).

 

ولقد وصلت هذه السَّديمية إلى رمزية شديدة تمثلت في الرقش العربي الذي فهم خطأ على أنه مجرد تزويق وزخرفة حسب مفهوم الفن الغربي، بل فسرها بعض المسلمين على أنها نتيجة منع التشبيه حسب الحديث الشريف، >يعذب المصورون يوم القيامة، يُقال لهم أحيوا ما خلقتم< مما دفع (باباً دوبولو) إلى القول : بأن التصوير في الإسلام >حرام أو خطيئة<.

 

ج.3. والواقع إن التصوير ليس حراماً، إلا عندما ينزلق المصور إلى الكفر، وهو يحاول تشبيه الصور مضاهياً الخالق بمقدرته على الخلق، و{الله هو الخالقُ البارىء المصوُّر}، ( سورة الحشر، الآية: 24 ).أو عندما يشبه في صوره رسم اللَّه تعالى، وفي ذلك كفر لأن اللَّه لا شبيه له، {ليس كمثلهِ شي، وهو السميعُ البصيرُ}، (سورة الشورى، الآية:11).

 

ج.4. لقد كان التصوير التشبيهي معروفاًَ في جميع العهود الإسلامية، بدءاً من العهد الأُموي ؛ حيث نرى حتى اليوم آثار الخلفاء في قصورهم البوادي، مثل قصر عَمْره الذي يحفل بصور الملوك وصور الجواري وأصحاب المهن إضافة إلى الحيوانات والطيور. وفي قصر الحَيْر الغربي نحتٌ لعله يمثل الخليفة هشام، ورسوم ضخمة أحدها يمثل امرأة على شكل (جيتا) التي تمثل الأرض، والثاني يمثل فارساً مطارداً، ولقد نقلت رسوم هذا القصر إلى المُتحف الوطني بدمشق.

 

أما قصر المفجر، فلقد حفل بروائع الرسوم والمنحوتات التشبيهية التي نقلت إلى مُتحف القدس. وفي العصر العباسي عثر في (سامراء) على العديد من الرسوم الجدارية في قصور المتوكل. وفي المتاحف الإسلامية، بقايا رسوم تشبيهية تعود إلى العهود الفاطمية والمملوكية. أما في العهد العثماني، فلقد تحدث الرحالة أوليا چلبي(ت 1668). عن مصورين في استانبول كانوا يبرعون بالتصوير التشبيهي، وما زالت المنمنمات التركية شاهداً على انتشار هذا الفن في المجتمع السني كما في المجتمع الشيعي، في فارس.

 

ج.5. وبصورة عامة فلقد أورد الشعراء والمفكرون، وصفاً لأعمال فنية تشبيهية، تؤكد انتشار هذه الفنون في العالم الإسلامي. ففي قصيدة أبي الطيب المتنبي التي يصف فيها انتصار سيف الدولة في قلعة (برزويه) البيزنطية، تصوير رائع يجعل من هذه القصيدة لوحة ملونة تزينها صورة خيمة نصبت عند استقبال سيف الدولة عام 946م، وهي من صنع المسلمين ولا شك، لأن خيمة مماثلة في مصر صنعت لوزير الخليفة المستظهر بالله (1033-1094). ويروي المقريزي، (مج 2، ص 419)، أنها من صنع مئة وخمسين عاملاً لمدة تسع سنوات، وكلفت الوزير اليازوري ثلاثين ألف قطعة ذهبية، وكان الوزير مفتوناً بالفن. ويتحدث المقريزي عن اهتمام هذا الوزير بالفن والتصاوير، ويذكر مصورين هما ابن عزيز والقصير تنازعا على تقديم أفضل الصور التشبيهية. ويقول المقريزي:> لقد سبق لي أن عرضت للموضوع تقييماً مفصلاً في كتاب صرفت فيه القول في هذا الأمر، وأعنى به طبقات المصورين<. وفي فصل من هذا الكتاب، وكان عنوانه: >ضوء المصباح والمستمتع بصحبته<، عرض المقريزي فيه سجلات المصورين المعروفين حتى زمانه. وشرحاً لآيات التصوير التي كانت لدى الخليفة الفاطمي، أو في بيوتات الوزراء والأمراء. ولكن هذا الكتاب مفقود لم يصلنا مع الأسف.

 

ولقد أورد المقريزي عن رواية اليازوري وزير الخليفة الفاطمي المستظهر، فقد أراد أن يستثير المصورَيْن القصير وابن عزيز الذي استقدمه من العراق ليتبارى مع القصير؛ الذي كان يشتط في طلب الأجور العالية في مصر، ويقول عن القصير: >والحق يقال كان جديراً<، بمثل هذا التقدير العالي، فقد كان في الرسم في عظمة ابن مقلة في فن الخط، في حين كان ابن عزيز على شاكلة الخطاط وابن البواب، ومن طبقته. وها هو اليازوري الآن،  وقد أدخل القصير وابن عزيز إلى قصره، ونسمع ابن عزيز يقول : “لسوف أرسم لوحة على نحو سوف يَخَالُ معه الناظر اليها أنها تطلع عليه من قلب الحائط”، وتصدى له القصير قائلاً، أما أنا فلسوف أرسمها على نحو سَيُخَيَّلُ معه الناظر اليها أنها تنخرط في الحائط وتتداخل فيه، وإذ ذاك أمرهما اليازوري بعمل ما تعهدا به، فقام كل منهما بوضع تصميم للوحة تمثل فتاة راقصة. فبدت في إحدى اللوحتين وكأنها تشق طريقها في الحائط دخولاً، أما في الأخرى وكأنها تشق طريقها في الحائط خروجاً.

 

ج.6. وهذا يدل على أن الفنان المسلم كان بإمكانه أن يصور تصويراً واقعياً دقيقاً، ولكنه وبصورة عامة يبتعد عن احترام قوانين المنظور الرياضي، لأنها ليست من تقاليده، ولأن المنظور في الدين والفن هو منظور روحي، إذ تقوم رؤية المصور لموضوعه على أساس أنه موجود بقوة اللَّه تعالى، وذلك فإن الأشعة البصرية ليست نسبية مخروطية، بل هي مطلقة متوازية صادرة عن الكون كله. وهكذا تبدو الصور مسطحة دونما بعد ثالث أو عمق، وهذا المبدأ  مستمد من القرآن الكريم، {وإن ْمن شيءٍ إلا يسبحُ بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليماًً غفوراًً }، (سورة الإسراء: الآية: 44). وفي آية أخرى، {ولله المشرقُ والمغرب فأينما تولوا فثم وجهُ اللَّهِ }، (سورة البقرة، الآية: 115).

 

ج.7. في فنون العمارة الإسلامية مواصفات حضارية دينية تبدو واضحة في عمران المدن الإسلامية، حيث يحدد المشهد البصري للمدينة الإسلامية خصائص دينية روحية، تتجلى أولاً في هيمنة المسجد الجامع الذي يقع في مركز المدينة، وتتحلق الأبنية حوله، فهو المركز الذي يشع المعاني السامية والقيم والثقافة، متمثلة بدور القرآن والحديث وبالمدارس والزوايا والبيمارستانات والمكتبات وحوانيت العطارين، كما تقوم في أطراف المدينة الأسوار المنيعة، وثمة قلعة لحماية السلطة وحولها أسواق الخيل وأسواق السُّرَيجيَّة والعلف.

 

وتكتمل عناصر المدينة الإسلامية عندما تتشكل الأحياء، وبينها الأزقة والحارات التي تؤلف شرايين المدينة، حيث يتواصل الناس، وهم في مأمن من عوارض الطبيعة، الشمس والمطر والعواصف، بل هم في غاية الارتياح عندما يمرون بهذه الطرقات الملتوية الضيقة أو العريضة، تفاجئهم وراء كل منعطف، مشاهد البيوت وتجمعات السكان، ويصلون إلى بيوتهم أو أسواقهم وأعمالهم دونما عناء ودون وسائط نقل.

 

وتحدد هذه الطرقات حدود الأحياء مقر العشائر أو الأسر أو أصحاب المهن المشتركة، وهكذا تتكون المدينة الإسلامية من مجموعات إثنية تحقق تضامناً اجتماعياً، يقوم على روابط متينة، إضافة إلى الروابط الدينية التي تتجلى باجتماعهم المستمر في الصلاة الجامعة أو أيام الجمع والأعياد وشهر رمضان.

 

ج.8. وعلى الرغم من اتساع أرض الإسلام، فإن الوحدة الحضرية ما زالت الحقيقة الأساس التي تغنيها العقيدة الإسلامية التوحيدية، يتمثل ذلك في اتجاه عمارات المدينة نحو القبلة؛ أو نحو الجنوب بحسب موقعها الجَغْرافي في مشرق العالم الاسلامي أو مغربه، وفي عدم ارتفاع البيوت عن مستوى المسجد بمآذنه وقبابه، فهي من طابقين لايعلو منزل على آخر لكي لا يقتحم الجيران حرمة بعضهم. وتبدو واجهات البيوت متقشفة اعترافاً بفضيلة التواضع: {ولاَتمْش في الأرضِ مَرَحاً}، على عكس داخل البيوت، {ودانيةً عليهم ظلالُها وذُللت قطوفُها تذليلاً}. (سورة الإنسان، الآية: 14). وتبقى رئة المدينة من الحدائق موزعة داخل البيوت في الأقنية، وقد عكست أحلام سكان المنزل بالفردوس الموعود للصالحين. فالفناء الداخلي، بأشجاره المثمرة ورياحينه وفسيفسائه ونوافيره، يبقى حقيقة فردوسية لانرى لها نظيراً في غير العمارة الإسلامية، فالمقياس الإنساني الذي قامت المدينة؛ والمسكن على أساسه، فرض شروط الثوابت البيئية: (المُناخ والتلوث) والمعيشية: (الراحة والأمن) والدينية :(الثقافة والأخلاق)، لتكون المدينة وعاء”إنسانياً إسلامياً، وغلافاً حضارياً يحدد ملامح الهوية الإسلامية؛ التي حددت سِمَة عمران المدن الإسلامية.

 

د) منطلقات إسلامية في تأسيس العمارة

 

د.1. استمد المعمار المسلم من الشريعة الإسلامية منطلقات لتأسيس عمارته، كان أولها المقياس الإنساني الذي يجب أن يتوفر في العمارة. واللَّه كرم الإنسان في قوله: {ولقد كرمنا بني آدم}. (سورة الإسراء، الآية :70). وفي آية أخرى: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم}. (سورة التين، الآية: 3)، وهكذا كان الإنسان هو البناء الأول الذي خلقه الله كاملاً في أحسن تقويم ومقياساً للكمال في الأعمال البشرية، وإذا لم تقرر الشريعة الإسلامية نظاماً وأسلوباً لعمارة المساجد والبيوت، إلا أنها حضت الإنسان على العمل والعلم والإبداع، كي يكون  إنتاجه سوياًً ثابتاً. وفي القرآن الكريم، {وقل اعملوا فسيرى اللَّه عملكم ورسوله والمؤمنون}، (سورة التوبة، الآية:105)، وفي ذلك حض على العمل المسؤول النافع، والقائم على العلم الذي لاحد له، {وقل ربِّ زدني علماً} .(سورة طه، الآية: 114). ولقد كرم اللَّه العلماء ورفع من مكانتهم في المجتمع الإسلامي: {يرفعِ اللهُ الذين آمنو منكم والذين أوتوا العلم درجاتٍ} (سورة المجادلة، الآية:11).

 

وفي مجال العمارة أكّد اللَّه في كتابه ضرورة  اختيار الأرض: {اللَّه الذي جعل لكم الأرض قراراً والسماء بناءً} (سورة غافر، الآية: 64)، ولقد اقتدى المعمار بأوامر اللَّه في تحقيق متانة ورسوخ عمارته، {أفمن أسس بنيانه على تقوى من اللَّه خيرُ أمَّن أسَّس بنيانه على شفا جرفٍ هارٍ فانهار به}. (سورة التوبة، الآية: 109). فلقد جعل رسوخ عمارة الإنسان تقوى من اللَّه ورضواناً، ويقول الشاعر في شروط البناء المدعم القوي:

 

والبيت لا يبنى إلا له عمدُ  ***  ولا عمادَ إذا لم ترس أوتادا

 

وليس من بناء بدون عمد إلا السماء التي رفعها اللَّه بغير عمد: {اللَّه الذي رفع السمواتِ والأرض َبغيرِ عمدٍ تَروْنها} (سورة الرعد، الآية: 2). والقصد أن تكون العمارة أمينة على أصحابها،{وكانوا ينحتون من الجبالِ بيوتاً آمنيَن} (سورة الحِجْر، الآىة:82).

 

ويضرب القرآن مثلاً في مدينة ذات أعمدة راسخة هي دمشق القديمة، {إرََمَ ذاتِ العماد التي لم يُخلَق مثلُها في البلادِ}. (سورة الفجر، الآية: 6).

 

وكثيراً ما شدد القرآن الكريم والحديث الشريف على التواضع، وعدم التكلف في الحياة، {ولا تَمْشِ في الأرضِ مَرَحاً إن اللَّه لايحبُ كلَّ مختال ٍفخورٍ}. (سورة لقمان، الآية: 18)، فلقد كان على المعمار ألا يفسح المَجال في عمارته إلى التشوف والتباهي خشية إثارة مشاعر الآخرين، فلم يُعْنَ بظاهر عمارته، بل اقتصر على تزيين داخل هذه العمارة.

 

إن مبدأ الوسطية الذي أشار إليه القرآن الكريم، والذي جعله خصيصة الأمة الإسلامية، قد دفع المعمار لتحقيق التوازن في عمارته، ولتحقيق الكفاية من وظائف السكن دون إفراط ولا تفريط، ولتحقيق الأنموذجية والمثالية في العمل المعماري، لكي يكون قدوة بين الناس.

 

{وكذلك جعلناكم أمةً وسطاً  لتكونوا شهداءَ على الناس ويكونَ الرسولُ عليكم شهيداً}، (سورة البقرة، الآية: 143). وحذر القرآن من المبالغة، {فأما الزَّبدَ فيذهبُ جُفاء وأما ما ينفعُ الناس فيمكثُ في الأرضِ}، (سورة الرعد، الآية:19). والعمارة فن كما هي علم، فإذا حض القرآن الكريم على إقامة العمارة على العلم لتكون راسخة قوية، كذلك حض على الفن، {قل من حرّم زينة اللَّه التي آخرج لعباده والطيباتِ من الرزق}.(سورة الأعراف، الآية: 32). {ولا تنسى نصيبَك من الدُّنيا}. (سورة القصص، الآية:77). {إنا جعلنا ما على الأرض زينةً لها}. (سورة الكهف، الآية:7). وتتضمن الزينة المعمارية دراسة التوازن الفني، {وأنبتنا فيها من كلِّ شيءٍ موزون}، (سورة الحِجْر، الآية: 18). والاعتناء بالماء والنبات في داخل المساكن لتعم فيها البهجة، {وأنزلنا لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائقَ ذات ِبهجةٍٍ}، (سورة النمل، الآية:60). وأمر القرآن بمراعاة ضوء الشمس ودفئها والظل، {وسخَّر لكمُ الشمسَ والقمرَ}، {وظلّلنا عليكمُ الغمامَ}. (سورة البقرة، الآية: 57)، {واللهُ جعلَ لكم مما خلق ظلالاً}.(سورة النحل: الآية:81).

 

د.2. وتبقى الزخارف الكتابية آية متميزة، فاللَّه كرم القلم والكتابة، {ن والقلم وما يسسطرون}. (سورة القلم، الآية :1). وكان الخط الجميل تعظيماً واحتراماً للكتابات القرآنية التي لم يخلُ منها مسجد أو بيت.

 

د.3. لقد وضعت الشريعة الإسلامية القواعد لضمان حقوق أصحاب البيوت أو الجوار، كان أولها وضع أحكام تختلف باختلاف الحالات. {ولاتَزِرُ وازرةٌ وِزْر أخرى}.(سورة الأنعام، الآية: 164). وفي الجملة كانت أكثر القواعد الكلية مرهونة لضمان المعماريين والساكنين والجوار، كما في الحديـــث الشريــف : >لاضرر ولا ضرار<، ـ والضرر يزال ـ ولا ينسب لساكت قول ـ والحق قديم… .

 

وهكذا تتجلى في العمارة الإسلامية وفنونها المواصفات الحضارية التي سنها القرآن الكريم، وفرضتها القيم السامية التي أمر بها الدين الحنيف.

 

هـ) البحث عن علم الجمال الإسلامي

 

هـ.1. لقد قدم الفكر الإسلامي جميع منطلقات الفنون الإسلامية من عمارة وتصوير ورقش، وكان لابد من تكوين فكر فني إسلامي، أو ما يسمى بعلم الجمال الإسلامي، كان قد أسهم في وضع أسسه كبار المفكرين المسلمين.

 

إن العودة إلى ما كتبه الفارابي والأصفهاني والجاحظ والتوحيدي؛ تقدم لنا مادة غنية لبناء مقدمة لعلم جمال ذي جذور بعيدة في الفكر الإسلامي. ولقد اخترنا أبا حيان التوحيدي، لأنه واحد من أعظم النقاد في تاريخ الأدب العربي(2). والنقد يحتاج قواعد ومنطلقات تحدد سمت الرؤية الفنية، ولقد عرض أبو حيان ماذا يعني الإبداع، ووضع مقاييسه على أساس هذا المعنى، فإذا تعرفنا على مظاهر أدبه عرفنا نموذجاً فذاً للكمال الإبداعي، وإذا اعتمدنا مقاييسه في قراءة أدبه أو أدب غيره من معاصريه، عرفنا أن آلية الإبداع لا تختلف عن آلية التذوق، وأن العمل لايستقيم إلا إذا كان منتمياً إلى الأسس النظرية للإبداع الفني، بحسب مفهوم الفن الخاص بكل حضارة من الحضارات.

 

هـ.2. لقد ازدهرت الحضارة الإسلامية عَبْرَ التاريخ، وكانت الأواصر بين جميع مظاهرها قوية متماسكة. ولم تكن وحدة هذه الحضارة ظاهرية شكلية، بل كانت جوهرية عميقة الجذور، اشترك في بنائها الدين والمثل والتاريخ.

 

ومن المؤسف أننا لم نبحث كثيراً في هذه الجذور، وما تم من تحقيق وبحث للتراث تم حسب دراسة أكاديمية متجردة. ولكن لا بد من دراسة التراث بمنطق العصر، لكي يصبح ثقافة دارجة، يمكن تداولها في الحاضر والمستقبل.

 

إن البحث عن الجذور يعني البحث عن الهُوية الثقافية، ولايمكن أن يدخل هذا تحت عنوان العنصرية أو الشوفينية، إلا إذا كان مفهومنا القومي قبلياً، وليس حضارياً. إن القومية هي رابطة حضارية، وإن الانتماء القومي هو انتماء حضاري.

 

ولقد قمنا بمحاولة للكشف عن معالم الفكر الفني من خلال مفكر عربي استطاع أن يقدم دونما عنوان فلسفة للفن، شأنه في ذلك شأن المفكرين الذين تحدثوا في علم الجمال من خلال الميتافيزياء. ولقد أردنا أن نقتطف فِقْرات في فلسفة الفن من خلال ما أبدعه من مقايسات أو مناظرات أو مؤانسات، وهي نصوص أدبية لها قيمتها الفنية بذاتها، ولقد درست على أنها مجرد نصوص رائعة، وأنها تضمنت مواقف وأفكار وروايات، ولم يفطن دارسو أبي حيان إلى فكرة الجمال (الاستطيقا)، وهو إهمال يشمل غيره من المفكرين العرب والمسلمين، ممن تحدث في فلسفة الفن، وكان له رأي في الإبداع والتذوق والعبقرية والتقنيات الفنية.

 

إن ما قدمه التوحيدي، هو مثال على الفكر الجمالي المبثوث في التراث العربي الإسلامي، وهي فلسفة متكاملة استوعبت الفنون الإسلامية من شعر وموسيقى وخط. وسنرى أن ما قدمه علم الجمال في الغرب كان قد قاله أبو حيان وغيره من المفكرين، ولكن بأسلوب آخر.

 

وهكذا تقوم فلسفة الفن عند أبي حيان على أنها الفلسفة التي تقابل، إلى حد بعيد، علم الجمال الغربي بجميع مسائله ومواقفه(3).

 

(1) جمعنا في كتابنا الفكر الجمالي عند التوحيدي، خلاصة ما أورده في كتبه، مما يتعلق بالجمالية الإسلامية، الكتاب طبع المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 1997.

 

(2) انظر كتابنا : الفكر الجمالي عند التوحيدي، الذي أشرنا إليه من قبل.

 

(3) الفكر الجمالي عند التوحيدي المشار إليه من قبلُ.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

clip_image001
الفصل الخامس
دور الفنون الإسلامية في التعبير
 عن قيم المسلمين وتاريخهم وحضارتهم

 

أ) هل الفنون الإسلامية دينية؟

 

أ.1. لم يقم الفن الإسلامي، عمارة كان أم تصويراً على أسس دينية سنها الشرع الإسلامي، ولم يكن هذا الفن أسلوباً مرسوماً من أساليب التربية الدينية، بل كان تصرفاً تلقائياً، قام به المصورون إرضاء للسلطة أو بدافع خاص، بتصوير الأحداث الدينية التي وردت في القرآن الكريم، وفي كتب السيرة، وكتب التاريخ أو سير الملوك والسلاطين. ولم يكن الهدف دينياً صرفاً، إن هذه الرسوم لم تكن وسيلة لتكريم الشخص بذاته أو لتقديسه، كما تم في الفن المسيحي، حيث وصلت الصور الأيقونية إلى درجة عالية من التقديس، بل أصبح البيزنطيون يعبدون الأيقونات، ولم يتوقف ذلك إلا بعد حروب الأيقونات (الايكونوكلازم) التي تمت في القسطنطينية. وقبل المسيحية كانت الفنون في الحضارات القديمة المصرية والرافدية وحتى الإغريقية والرومانية تسعى إلى التعبير عن العقائد بأسلوب تصويري إيضاحي.

 

أ.2. ولكن غزارة الصور في الفنون الإسلامية، والتي ما زال بعضها على جدران القصور؛ وعلى صفحات المخطوطات على شكل منمنمات أو مرقنات إيضاحية، يطرح علينا سؤالاً، إلى أي مدى استطاعت هذه الفنون أن تخدم قيم المسلمين وتاريخهم وحضارتهم، على الرغم من أن الإسلام في بدايتة قام على تشجيع التقشف والكفاف في العمارة واللباس، والفنون جميعاً، ولكن الهدف الحضاري الذي يختفي وراء هذه الإبداعات، يجعلنا نعترف اليوم أن الفنون الإسلامية قدمت للمسلمين فرصاً واسعة لرفع مستوى ثقافتهم الدينية والدنيوية، التاريخية والاجتماعية، وقدمت للعالم فرصاً أخرى للتعرف على واقع الدين، لكونه رسالةً حضارية حققها من خلال التفاعل مع ثقافات الشعوب التي دانت بالإسلام، تقوم بتطويرها بحسب المطامح الإنسانية التي يسعى إلى تحقيقها المسلمون دائماً.

 

ب) دور العمارة في خدمة القيم الإنسانية

 

ب.1. قدمت العمارة الإسلامية الظرف المثالي الملائم للتعبير عن القيم الإسلامية، فالكعبة المشرفة كانت أول عمارة خدمت الفكر التوحيدي، {إن أول بيتٍ وضِعَ للنَّاسِ الذي ببكةَ مباركاً وهدىً للعالمينَ} (سورة آل عمران، الآية: 96). فهذه العمارة البسيطة، والتي كانت موئل طواف العرب قبل الإسلام منذ إبراهيم الخليل، {وإذ يرفَع إبراهيم القواعدَ من البيتِ وإسماعيلَ} ( سورة البقرة، الآية: 127)، أصبحت قبلة المسلمين يأتون من جهات الأرض الأربع، يطوفون حولها في حجهم وعمرتهم، ويتجهون إليها في صلاتهم بأمر من اللَّه تعالى،{قد نرى تقلُّبَ وجهِكَ في السماء فلنولِّينك قبلةً ترضاها فَولّ وجهك شطَر المسجدِ الحرامِ وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شَطْرَهُ}، (سورة البقرة، الآية: 144).

 

ب.2. ولم تكن الكعبة المشرفة إلا بناءً مربعاً بسيطاً يرمز إلى الجهات الأربع يحوي الحجر الأول الذي وضعه إسماعيل بن إبراهيم جد العرب. لقد استطاع هذا البيت العتيق بمكة المكرمة أن يؤدي وظيفة سامية، وما اجتماع مليوني مسلم أو يزيد حولها أيام الحج، إلا دليلاً على مكانة هذا البيت الأول في الإسلام في خدمة القيم الإنسانية {وإذ بوأنا لإبراهيمَ مكانَ البيتِ أن لا تشركَ بي شيئاً وطهِّر بيتي للطائفين والقائمينَ والركَّع  السُّجود} (سورة الحج، الآية: 26).

 

ب.3. والحرم المكي الذي استوعب هذه الملايين من المؤمنين، أصبح بعد توسعاته المتكررة آبدة للعمارة تعبر عن مسجد الإسلام؛ ووحدة المسلمين الذين يأتون من أنحاء العالم، ساعين وراء دعاء مشترك يتجهون به خاشعين إلى اللَّه سبحانه، في مكان مقدس كرمه اللَّه تعالى وكرَّمه المسلمون على مدى التاريخ، {ثم ليقضوا تَفثَهُمْ وليوفوا نذوَرهم وليَّطوفوا بالبيت العتيق}. (سورة الحج، الآية: 29). {لكم فيها منافع إلى أجلٍ مسمى ثم محِلّها إلى البيتِ العتيق}.(سورة الحج، الآية: 33).

 

ب.4. وإذا ابتنى الرسول بيديه مع المؤمنين الأوائل أول مسجد في المدينة المنورة، فإن هذا المسجد قدم أول حيِّزٍ مكاني استقرت عليه الدعوة الإسلامية، فكان منبراً للرسول وندوة له مع المؤمنين يتدبرون شؤون الدعوة، وتنظيم الحكم، وكان مثابة للناس يؤدون فيه صلاتهم في أوقاتها. وعمارة المسجد دليل على الإيمان بالله، {وانما يَعْمُر مساجدَ اللَّهِ من آمنَ باللهَِّ واليومِ الآخر}. (سورة التوبة، الآية: 18). وهو دليل على التقوى، {لمسجدُ أسسَ على التقوى من أولِ يومٍ أحقُّ أنْ تقومَ فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا واللَّه يحبُّ المطهرين}. (سورة التوبة، الآية: 108).

 

ب.5. لقد أذن اللَّه أن ترفع المساجد، فهي بيوت اللَّه وموئل المؤمنين للعبادة وممارسة الشعائر والواجبات الدينية.{في بُيوت أذِنَ اللَّهُ أن تُرفَع ويذكرَ فيها اسمهُ يُسَبَّحُ فيها بالغدّو والآصال* رجالٌ لاتلهيهم تجارة ولا بيعُ عن ذكرِ اللَّه وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلَّب فيه القلوبُ والأبصار}. (سورة النور، الآيتان: 37-36).

 

ب.6. وليس المسجد مكاناً للصلاة فقط ، بل هو مكان للعلم والقضاء، وإعلان الزواج، ومكان للسياسة، حيث يعلن الخطيب دعاءه وولاء المسلمين للخليفة والأمير، أو يعلن استنكاره لبعض الأخطاء والانحرافات السياسية والإدارية، وينهى عنها. والمسجد مكان رحب لتوطيد علاقات الناس وجمع كلمتهم وقلوبهم على المحبة والعمل الصالح. وفي المسجد تقام حلقات التعليم، ويمارس القضاة العدالة بين الناس.

 

ب.7. أمام هذه الوظائف الدينية والمدنية الضخمة التي يؤديها بناء المسجد، كان لابد من العناية بعمارته. والاهتمام بأثاثه، وإضافة ما يساعد على أداء مهامه، فكانت العناية بالمآذن علامة كبيرة مهيمنة على المدينة تدل على سلطان الدين، وترمز إلى التسامي والابتهال، فالمئذنة برج شامخ يسمو إلى السماء من الأرض، يعبر عن تطلع المؤمن للتقرب من الله. وترمز المئذنة إلى رسوخ المؤمن وتمثله الصومعة المربعة، وإلى انتشار الدعوة  ممثلة بالمنارة، وإلى الالتصاق بالملإ الأعلى ممثلاً بذروة المئذنة، والجامور المؤلف من كراتٍ تمثل الكواكب ومن الهلال.

 

ب.8. أما القباب فكانت تعبيراً عن قبة السماء التي تحدب على المؤمنين وتحميهم، ولقد تفنن المعمار في التعبير عن دور القبة هذا من خلال تشكيلات متعددة الشكل، من المكوِّر إلى البَصََلي وإلى المُفلطح، وجعلت النوافذ في أسفلها لتزيد قدسية الجامع نوراً. أما المحاريب فكانت قبلة تجدد سَمْتَ الكعبة المشرفة، ويتجه المصلون نحوها لكي يمارسوا صلاتهم، ولكي تلتقي قبلتهم في نقطة واحدة حددها هذا البيت العتيق في مكة المكرمة.

 

وكانت المحاريب والمنابر موضوع عناية المهندس والمزخرف، احتراماً للمصلين المؤمنين، وتعظيماً لدور هذه العناصر المعمارية في خدمة أهداف الدين.

 

ج) المدينة لخدمة القِيَمِ الإسلامية

 

ج.1. لقد مضى التنظيم العمراني قدماً لخدمة المجتمع الإسلامي، لكي يحقق أهدافاً دينية ودنيوية. أما الأهداف الدينية فتبدو واضحة من خلال إقامة المسجد الجامع في مركز المدينة، ثم إقامة المنشآت الأخرى التي تخدم الثقافة الدينية، مثل المدارس ودور القرآن والحديث. وهذه المباني هي موئل المؤمنين، ليس في أيام الجمع والأعياد فقط، بل يومياً، وبشكل رسمي، لذلك فإن المعمار جعل هذه المؤسسات في مركز المدينة، لتكون أقرب وصولاً للسكان القادمين من أرجاء المدينة. وتمتد الطرقات والأزقة متجهة نحو المركز، تقطعها طرقات على شكل حلقات تحيط مركز المدينة.

 

ج.2 . أما الأهداف المدنية فتتجلى في جعل دواوين الحكم والقضاء في مركز المدينة، أيضاً، وفي إقامة المنشآت الصحية مثل البيمارستان والخانقاة والمدارس حولها، ثم إقامة الأسواق بدءاً من سوق الكتب والعطارين الذين يبيعون الأدوية النباتبة والعطور، إلى أسواق الأقمشة والملابس، ثم المتاجر الغذائية على اختلاف أنواعها. وتبقى القلعة في طرف من الأسوار تحيطها أسواق الخيل والعلف والجلود. ويخترق المدينة عدد ضخم من الأزقة والحارات المتعرجة، والتي تساعد على وصول الناس إلى الجامع وإلى الأسواق أو إلى أعمالهم المختلفة، تسهيلاً لواجب العمل، {وقل اعملوا فسيري اللهُ عملكم ورسولهُ والمؤمنون}.(سورة التوبة، الآية: 105). ولكن ضمن حدود واجب العبادة، {رجال لا تُلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر اللَّه وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار}.(سورة النور، الآية:37). {ليجزيَهمُ اللَّه أحسنَ ما عملوا ويزيدهم من فضله واللَّه يرزق من يشاء بغير حساب}. (سورة النور، الآية:38).

 

ج.3. لقد قام عمران المدن على مبدإ تحقيق الأمن والسلامة، الذي يتمثل في نظام الأحياء وأبوابها والأسوار الواسعة وأبواب المدينة المنيعة، كما يقوم على مبدإ تثبيت الروابط القبلية والمهنية بتوزيع الأحياء السكنية حسب التعددية الإثنية، {وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا}، لتحقيق وحدة اجتماعية متماسكة متضامنة بعيداً عن التنافر والحساسيات.

 

د) المسكن وعاء القِيَمِ الإسلامية

 

د.1. أما المسكن، فلقد كان فردوس صاحبه الموعود به، بعد عمل ناجح، وبعد تقوى خالصة يمارسها المؤمن خلال نشاطه اليومي، {والله جعلَ لكم من ُبيوتكم سكناً وجعل لكم من جلود الأنعامِ بُيوتاً تستخفّونها يومَ ظعنِكم ويومَ إقامتكم}، (سورة النحل، الآية:80 ). ويقام البيت ليحقق استقرار ساكنيه وسكينتهم، وهم يمارسون نجوى مستمرة مع السماء التي تهيمن على البيت كله من خلال فِناء البيت المكشوف على السماء والشمس والهواء النقي.

 

د.2. لقد تربى المسلم على قِيمٍ إسلامية فرضها الدين وكونتها العادات، ومن أهم هذه القيم احترام حقوق الآخرين في العيش بسلام آمنين، في حماية المجموعة وحماية أخلاق المجموعة التي تسعى إلى ضمان استقرار الجوار أحراراً مستقلين في مسكنهم، وبعيداً عن فضول الآخرين وتسلطهم، لذلك كانت العمارة تقيد بارتفاع الجدران والطوابق والفتحات وأبعاد الطرقات الفاصلة بين البيوت. ووضع المعمار شروطاً لأبعاد الفتحات من أبواب ونوافذ خارجية، وتحاشى المعمار اختراق حقوق صاحب المبنى، واستغل جميع الفرص الداخلية لتحقيق راحة الساكنين وسترة النساء، ولتحقيق المَنَعة والأمن والراحة والمتعة والعبادة، وخلق الفرص المواتية لتقوية الروابط الاجتماعية بين السكان وتقوي عرى التعاون بين الرجال على تحقيق الفضيلة والصلاح، والتعاون بين النساء على تدبير شؤونهن البيتية وتربية أولادهن.

 

د.3. وكانت العمارة الداخلية من زخرفة حجرية وخشبية وجصية وخزفية فرصة للتعبير عن روائع الآيات الكريمة، منقوشة بخط جميل على الجدران، وللتعبير عن الله المطلق إله الكون، من خلال الزخارف أي الرقش الذي بقي مجرداً بعيداً عن التشبيه النسبي، وكان الرقش النباتي صيغة من صيغ التسبيح بوحدة الله، وبالتعبير عن عبادته والإيمان به.

 

هـ) دور الفنون التشكيلية الديني

 

هـ.1. إذا انتقلنا من العمارة إلى الفنون التشكيلية، وبخاصة الرسم والنحت، لوجدنا أن هذا الفن الذي ملأ جدران كثير من المنشآت الأولى مثل قصر الحَِيْر وقصر المفجر وقُصَيْر عَمْره، والقصور العباسية في سامراء مثل قصر الجَوْسَق، لوجدنا أن الغرض من هذه الرسوم كان على وجهين، وجه تزييني يعبر عن السعادة والفرح والتسلية، وهو هدف معروف في الفنون التشكيلية، ووجه آخر ديني وعلمي، ويبدو من خلال الصور الجدارية، ورسوم المخطوطات، والرسوم على الأدوات الاستعمالية، وهي تمثل مظاهر الممارسات الإسلامية، كالعبادة والجهاد والمعرفة والسياسة، كما مثلت هذه الرسوم مشاهد الحج والطواف، ومثلت قصص الحروب الأولى التي شنها الرسول، صلى الله عليه وسلم،  في سبيل الدعوة، إلى الحروب التي شنها السلاطين في فارس وتركيا لتحقيق الفتوح والدفاع عن الثغور والحدود. أما تاريخ الملوك؛ فلقد توسع الفنانون بتصويرها تعبيراً عن الانتصارات والأمجاد التي حققها هؤلاء الملوك والسلاطين.

 

هـ.2. كانت أنواع المخطوطات قد زودت برسوم إيضاحية ملونة، وكان أقدمها يشرح الكتب العلمية المترجمة إلى العربية، وهي طبية أو تتعلق بالحيوان، ثم كان بعضها لتزيين الأشعار وشرحها أو لتصوير المقامات وشرح أحداث الرحلات، كما في مقامات الحريري.

 

وكتاب جالينوس في الطب (ت. 1119م)، يتضمن صوراً تتعلق بالأدوية وطرق تحضيرها، وبزراعة الأعشاب ومشاهد العمال الزراعيين، يوجد من هذا الكتاب نسخة في باريس وأخرى في فيينا، أما كتاب الأغاني للأصفهاني (ت،1217م)، فقد بقي منه ست نسخ، واحدة في القاهرة وأخرى في استنبول، وهو يعبر عن الحياة الاجتماعية. وفي كتاب (ديسقوريدس) الطبي الموجود في استنبول (ت:1222م)، مشاهد الأزياء والحياة الاجتماعية، أيضاً، إلى جانب دكاكين العطارين ومصانع الدواء وأنواع النباتات الطبية.

 

وفي كتاب كليلة ودمنة، وبخاصة مخطوطة باريس (ت:1222م)، وفيها (92) رسماً يعبر عن الحيوانات، وهي تتخاطب على لسان (بَيْدبا) الفيلسوف.

 

ولعل كتاب مقامات الحريري، وبخاصة نسخة باريس التي مثلت بجلاء الأحوال الاجتماعية والعادات والعمارة واللباس في مِائة صفحة. وصور مُرقَناتها الواسطي، تحوي روائع التصوير العربي الإسلامي(1).

 

وفي العصر المغولي؛ تظهر مخطوطات تعبر عن منافع الحيوان لابن بختيشوع (ت:1294م)، وثمة مخطوطات تاريخية للبيروني مثل تاريخ الشعوب القديمة (ت1307م)، وفيه عرض تاريخي لنشأة الإنسان، وفي مخطوط “جامع التواريخ”  لرشيد الدين (ت:1306م)، نصوص مستوحاة من الكتب الدينية.

 

ومن أشهر كتب تاريخ الملوك كتاب: ” الشاهنامة” للفردوسي (ت:1010م)، الكتاب الذي أعيد نسخه مراراً، ويضم مواضيع أيقونية وبأسلوب تهكمي أحياناً. وفي بغداد ظهر كتاب: غرائب العلم (1389م)، وفي مصر وسورية كان كتاب الجزري “آليات الحركة” مجالاً للرسم العلمي والتعليمي، المتعلق بعلم الميكانيك.

 

و) صور الأنبياء وتاريخ الرسول عليه الصلاة والسلام.

 

و.1. ويجب أن نقف باهتمام أمام صور “معراج نامه” التي تمثل حياة الرسول محمدعليه الصلاة والسلام، وهو أمر جرئ وجه له انتقاد حاد، ولكن الرأي الآخر كان معتدلاً، ويرى في تصوير الرسول عملاً تربوياً وتكريمياً، يقول ثروت عكاشة(2): >وهؤلاء الذين أباحوا لأنفسهم أن يصفوا الرسول قولاًً وقفوا دون أن يوصف رسماً، وليس ثمة فرق بين الاثنين فيما أرى<.

 

و.2. لقد وردت صورة الرسول في كتب الأثر متماسك البدن أبيض الوجه، مشرب الحمرة طويل الأهداب أبلج، أزج، ( الزجج: رقة مََحطِّ الحاجبين ودقتهما وطولهما وسبوغهما واستقواسهما) وليس مطهماً (قليل لحم الوجه) ولا مكلثماً (غير مستدير الوجه). ولكن هل كان المصور وفياً بهذه الأوصاف، وفياً لصور الأنبياء والصحابة ورجال التاريخ، لقد كانت رؤية المصور مختلفة، فلقد بدا حرصه على إشاعة السماحة النبوية النابضة بإشراق إلهي، يحس معه المشاهد بورع يملأ عليه وجدانه، ففي لحيته رقة ولطافة يوحيان بالوقار، وفي قسمات وجهه نورانية دافقة تسيل إلى أعماق النفس(3)، وكان تصوير الأشخاص محوراً مبسطاً بحسب المفاهيم الجمالية الفنية.

 

و.3. لقد كان القصد خدمة الثقافة الدينية بدءاًً بالدعوة التي قام بها الرسول وبالإسراء والهجرة والحروب، وهو هدف تربوي يشجع عليه الإسلام. ولقد علم اللَّه الإنسان القراءة والبيان وعلمه الأسماء كلها {خلق الإنسانَ* علمه البيان} (سورة الرحمن، الآيتان: 4-3 )، وكان البيان أول ميزة من مزايا الإنسان، والبيان لا يكون كتابياً فقط، أو شفهياً فقط، بل هو في أي طريقة ممكنة إشارة أو رمزاً أو صورة. وهكذا خدم الفن الإسلامي أغراض الدين وتاريخه، وكرم شخصيات الإسلام بالتعبير عن مآثرهم وسلوكهم وتقاليدهم، ولم يكن قصده من وراء ذلك كله مضاهاة اللَّه، طالما هو يبتعد عن التشبيه والواقعية، إلى الرمز والكناية.

 

و.4. وفي نهاية العصر المغولي كان شاه رخ ابن تيمورلنك قد أمر بنشر الكتاب الشهير جداً، الذي يمثل قصة الرسول محمد عليه الصلاة والسلام، باسم معراج نامه (1436م)، الموجود في باريس، ومهما قيل في هذا المخطوط، وهذه الرسوم أنها تخالف مبدأ منع التصوير، وبخاصة تصوير الرسول، فإن هذا الكتاب يبقى تعليمياً يرشدناً إلى قصص وتاريخ النبيعليه الصلاة والسلام، بإيضاح مؤثر.

 

و.5. في ذلك العهد ظهرت دواوين الشعر المصورة مثل قصائد نظامي الخمسة والبستان لسعدي وقصة يوسف وزليخة ، وكلها مزينة بالمنمنمات ، وكانت أعمال الرسام الشهير بهزاد(ت:1514 م( تسجل المجتمع الإسلامي بأسلوب جذاب ممتع، فقد رسم الحياة اليومية الإسلامية في إيران. وينسب إلى (بهزاد) رسوم كتاب الظفرنامه، وتاريخ تيمورلنك، وكان بهزاد مسؤولا” عن عدد من الرسوم المستقلة تعبر عن الأفراد والحيوانات. وكانت مدرسة  التصوير التعليمي التي أسسها في تبريز شاه إسماعيل، مدينة بتطورها وإنتاجها إلى الأسس التي وضعها (بهزاد).

 

وفي العهد العثماني يزدهر التصوير المعبر عن الجهاد، وعن انتصار المسلمين من خلال الحديث عن حياة السلاطين، مثل كتاب (ألبوم الفاتح) الذي رسمه أحمد موسى، ويتعلق بالحديث عن المشاهد القرآنية ذات الأصالة والجدارة بتصوير الرسول، حسب الملامح التي وضعها الإمام علي، والمصور الآخر محمد صباح كالم؛ رسم بعض الأشكال التي تمثل رجالاًً وحيوانات، وتمثل الأحداث والحياة اليومية، وفي كتاب حياة السلاطين (الهورنامه) وكتاب الأعياد (السورنامه) تظهر مشاهد يومية بأسلوب ساذَج، ولكنه بالغ التعبير، وفي كتب أخرى تظهر معارك الجهاد التي تعبر عن أشكال المحاربين.

 

و. 6. لقد عبرت الرسوم الإيضاحية عن حضارة الإسلام أروع تعبير، كما عبرت عن مجد المسلمين بتقديم انتصاراتهم وعمرانهم واكتشافاتهم، وكانت هذه الرسوم تنتقل من صفحات المخطوطات؛ لنراها على الجدران وعلى الأواني.

 

ويبقى المسجد بما فيه من كتابات قرآنية وخطوط، وما فيه من زخارف فسيفسائية وخزفية وخشبية، آيات فنيه تعبر عن حضارة المسلمين.

 

ز) المسجد الإسلامي من خلال الفنون

 

ز.1 وبصورة عامة؛ فإن بناء المساجد الشامخة مثل مسجد قبة الصخرة ومسجد قرطبة ومسجد الشاه في أصفهان ومسجد السليمانية في استنبول، وبناء القصور الفخمة مثل قصور الأُمويين وقصور الحمراء وحدائقها الشهيرة، علاماتٌ مضيئة في ارتقاء العمارة الإسلامية إلى مستوى يفوق مستوى العمارة في العالم، وكان المعمار (سنان) يلقب في الغرب باسم (دافنشي الإسلام)، لما يتمتع به من مقدرة إبداعية، ولاشك أن المعمار (سنان) كان يفوق جميع معماريي عصر النهضة الإيطالية بنظرياته وعماراته الُمَقَّببة المعجزة.

 

ز.2 . إن جميع أشكال الفنون الإسلامية، من عمارة ورسوم وسجاد وصناعات نسيجية، كانت تعبيراً عن تقدم ثقافي وإبداعي واجتماعي وعلمي، يتمثل ذلك في الرسوم الفلكية والعلمية والهندسية ورسوم الحيوانات بأسلوب إبداعي، ورسوم المجتمعات المختلفة، ونقل العلوم الطبية والفيزيائية والدينامية، وابتكار فن الإيضاح،  مما رفع مستوى النشر بتجويد الكتابة والخط، والتذهيب والتجليد، وإغنائها بالصور المنمنمة الملونة.

 

وبصورة عامة كان الإبداع والتجويد بالخط والرسم والتلوين وبالعمارة والنقش والزخرفة الداخلية ، وبابتكار الأشياء الاستعمالية الزجاجية والمعدنية والفخارية، وابتكار الألواح الخزفية والملابس والحلي، هي من سِمات الحضارة الإسلامية التي أنشأها عباقرة الفن، دعماً لعباقرة السياسة، والتاريخ والعلم  والفقه.

 

(1) انظر كتاب، الفكر الجمالي عند التوحيدي المشار إليه من قبلُ.

 

(2)  كان، د. ثروت عكاشة أول من اهتم بكتاب: (معراج نامه)، فحققه ونشر منمنماته وشرحها، انظر:(معراج نامه أثر إسلامي مصور)، صدر عن دار المستقبل العربي، بيروت، 1987م.

 

(3) عكاشة، نفس المرجع.

 

 

17 تعليق

  1. محمد الجزائري said,

    أوت 2, 2016 في 5:18 م

    أتساءل لماذا لم تصلنا كتب تراثية في العمارة ؟ ألم يترك لنا المعماريون المسلمون أية كتب تتحدث عن العمارة ولو من جانبها الفني الجمالي فضلا عن الجانب التقني العلمي والهندسي ؟ رغم كل هذا الإبداع والتفرد في نمطية العمارة الإسلامية ، فهل مبرر ذلك أن العمارة كانت فنا ؟؟؟
    أتمنى أن يكون هناك من ينبري للإجابة عن سؤالي هذا ، ومشكور مسبقا .

    إعجاب

  2. ديسمبر 30, 2015 في 8:09 م

    مع الشكر لمن كتب ولمن نشر ولمن شارك ولكن مع الاسف كذلك، فان معرفتنا بخلفيات السيد عفيف البهنسي وكتبه في الفن وتاريخه والتي كانت من الاسباب التي ادخلتنا في جحر التبعية واوهمتنا بالحرية والهوية والخصوصية والعروبة والاسلام ….الذي ادخله في هذا المجال غصبا في ظني لاكتساب مشروعية لاعماله وبحوثه التي شكلت ولا تزال رجعا لصدى الدراسات الاستشراقية وتاويلاتهم وفهمهم للفنون والعمارة والمدينة العربية والاسلامية سواء بسواء. لقد تعامل مع هذا التراث المعماري بجدارة على المستوى التاريخي رغم اعتماده على المراجع الاستشراقية المشكوك في تحريها العلمي ونزاهتها وفشل بالمقابل في هذا المجال فشلا ذريعا من حيث الفهم ومعرفة طبيعة العمارة الاسلامية لانه لم يتمكن من الولوج اليها من خلال ابوابها بل حاول تسورها من خلال
    اسوارها دون معرفة سرها ففشل في ذلك .

    إعجاب

  3. انجى محمد said,

    جويلية 15, 2014 في 12:47 م

    بكام الجامعة ديه

    إعجاب

  4. جوان 14, 2014 في 5:17 م

    كتاب قيم ويزخر بمعلومات عن المسلمين وتوجههم الفني والمعماري من بداية الاسلام الى وقتنا الحالي

    إعجاب

  5. ماي 6, 2014 في 12:24 ص

    ما شاء الله كتاب

    رائع

    إعجاب

  6. ahmed max said,

    أكتوبر 17, 2013 في 10:45 ص

    كتاااااب رااائع وقيم
    شكراااا أخي الكاااتب

    إعجاب

  7. ABDU said,

    سبتمبر 23, 2013 في 9:56 ص

    شكرا جزيلا على المجهود

    إعجاب

  8. يوسف said,

    ماي 31, 2013 في 9:44 م

    اللهم زدني علما، شكرا لك أخي الكاتب علي هذه الحلقة المفقودة في المنهج الدراسي التي لو جسدت علي أرض الواقع لغيرت من أفكار الشعوب فالعمران له أثر في التوجه الفكري للمجتمع فمن كان بنيانه علي تقوي من الله و رضوان خير

    إعجاب

  9. chaimaa a said,

    ديسمبر 15, 2012 في 10:08 م

    لم اكمله بعد لكنه كتاب رائع جدا

    إعجاب

  10. هاله said,

    ديسمبر 27, 2011 في 8:34 م

    عذرا اود ان استفسر هل هذا هو الكتاب كاملا ؟؟
    ام اجزاء منة

    إعجاب

  11. Amal El-Rouby said,

    نوفمبر 25, 2011 في 12:08 ص

    كتاب علمي كانت المكتبة العربية في حاجة كبيرة له , تمنياتي بالتوفيق لمؤلفه.

    إعجاب

  12. د.محمد عرب الموسوي said,

    ديسمبر 10, 2010 في 4:35 م

    كتاب علمي رائع وتقديم اروع مع تمنياتي للمؤلف التوفيق في حياته العلمية والعملية ومزيدا من التقدم خدمة للعلم والمعرفة

    إعجاب

  13. sam said,

    سبتمبر 25, 2010 في 5:04 م

    يا شباب انتو كمان
    من فضلكم

    إعجاب

  14. sam said,

    سبتمبر 25, 2010 في 5:03 م

    يابنات ممكن تعطوني اميل تاعكم او سكايب او فايسنبوك بليز

    إعجاب

  15. muoalem said,

    سبتمبر 24, 2010 في 9:48 م

    لقدكان اهتمام المعماريين بالعماره الأسلاميه بما يتوافق مع ثقافة الأنسان وحاجته انطلاقا من الأصاله . لذلك كانت العماره ملبية لحاجته ومنسجمه مع تقاليده وأفكاره وخصوصيته .
    اما اليوم هذا الأنسان لم يعد موجودا .فهو لا يريد ان تكون له خصوصية ولا تقاليد وأفكاره قد تغيرت انطلاقا من طعامه وانتهاء ب بنطال الجينز .
    من هنا ارى أن المعماريون هم فقط من يريد الحفاض على الأصاله . بينما تتسارع في الأنهيار قيم ثانيه . عادات الطعام . واللباس ( الموضه ) والموسيقا . ولا يقف احد في وجه هذا الأنهيار .
    ويرى معماريون كثر ان استعمال مواد البناء الحديثه كالأسمنت والبلور والمعدن . وادخال التكيف والطاقه في الأبنيه الحاليه ,مثل ارتداء بنطال الجينز وأكل الهمبرغر وموسيقا البوب العربي .
    وكيف نسمح لمدرسينا في الجامعات (كليات العماره )ان يستبدلوا القوس ب الأرك -والقبة ب الكوبلا – والبرج ب التاور – والمنحني ب الكيرف .
    أرى ان نقف جميعنا – معماريون , علماء اجتماع , موسيقين ,ودارسين الموضه ,وأن نفهم الأسلام كل في مجاله .
    وأقول كمعماري ان العماره الأسلامية ليست تراثا حتى نسترجعه او نحييه ,وانما هي حالة مستمرة كونها مأخوذه من الدين الحنيف المستمر , وطالما هي مستمره اذا هي حيه قابله للنقاش والتعايش والتطور . مع المستجدات الجديده, وبما لا يتعارض مع التشريع الأسلامي .
    العماره الأسلاميه هي قديمة اصيله ومستمرة حديثه . وهذا ما يجب ان يعرفه الجميع .

    إعجاب

  16. soltanzamane said,

    مارس 8, 2010 في 2:34 م

    أشكركم على المعلومات الجميلة ، وأتمنى لكم مزيداً من التقدم والتوفيق ، كما أتمنى تزويدى بما يستجد لديكم من المشاركات والتعليقات التي تهتم بالفنون في العصور الإسلامية السابقة . . . وشكراً

    إعجاب

  17. المهندس ثابت العزب said,

    فيفري 20, 2009 في 7:21 م

    انا لم أقرأ الكتاب الا اني اطلعت على بعضه والمؤلف أشهر من نار على علم كما يقال الا اني استدل من بعض ماجاء في الكتاب عن موضوع مدينة زبيد التاريخية فربما يكون الجيل الجديد لم يدرك أهمية مدينة زبيد كمركز اشعاعي ديني وثقا في على مرور أزمنة موغلة في القدم وكان والدي رحمة الله عليه يرغب في مواصلة دراستي الجامعية في مدينة زبيد وما قد جاء في الكتاب نقتطف (حماية التراث المعماري الإسلامي، عن طريق ترميمه والتعريف بمؤسساته المختلفة، وإبراز دوره الثقافي المشعّ عَبْرَ التاريخ، فقدمتا الدعم لترميم المؤسسات المعمارية) طبعا يتحدث المؤلف هنا عن منظمة اليونسكو والمنظمات العالمية الاخرى الداعمة، اتمنا أخي بشير مواصلة الدور التنويري الهام لاجيال أمتنا العربية وما تقوم به اليوم سيسجل لك في التاريخ لا تستهين بهذا الدور العظيم.

    إعجاب


أضف تعليق